فكرة

البيانات الضّخمة في خدمة مكافحة الفقر في السينغال

إنّ الحدّ من الفقر يشترط بالضّرورة التّمكّن من قياسه بدقّة. وقد تمّ، في السّينغال، وضع خريطة دقيقة للمستوى الاجتماعي والاقتصادي للبلاد بفضل مقاربة رياضيّة مبتكرة.
COU_2023_1_SENEGARL_WIDE_ANGLE

كليمنس كلوزيل

صحفي من داكار

 في السينغال، يُعَدّ أكثر من سبعة من أصل عشرة أشخاص من الفقراء. ويستند هذا التّقدير إلى البيانات المجمّعة من الدّراسات الاستقصائية عن دخل الأسر واستهلاكها، والمقرونة ببيانات التّعداد السكاني. ويكمن الإشكال في الكلفة المرتفعة لهذه المقاربة التي تتطلّب موارد بشريّة كبيرة. لكن في الواقع، لا تُجري العديد من البلدان النّامية مثل هذه الدّراسات الاستقصائية سوى في فترات متباعدة، وهو ما يعوق عمليّة رصد الفقر ومتابعته. في حين يتمثّل العائق الثاني في كون المقاربة الكلاسيكية لا تعطي صورة دقيقة للوضع.

يقول عالم الديمغرافيا في الوكالة الوطنية للإحصاء والديموغرافيا بالسنغال ANSD، مامادو أموزو: "تعتمد الطريقة المستخدمة لقياس الفقر في السّينغال على مقاربة مالية قائمة على الدّخل أو الاستهلاك، ولا تأخذ بعين الاعتبار أوجه الحرمان التي يعاني منها الأفراد في قطاعات مثل الصحّة والتّعليم وغيرها. والحال أنّه يتعيّن على أدوات قياس الفقر أن تُمكّن الحكومات من فهم هذه الظّاهرة في جوانبها المختلفة".

تمكّن البيانات الضخمة big data من تلافي ثغرات مناهج التّعداد السكّاني التقليدية

في حين تستند المقاربة الرّياضية إلى البيانات الضّخمة big data التي أثبتت فعاليتها في سدّ مثل هذه الثّغرات، فإنّ الدّراسة الاستقصائية التي "تجمع بين مصادر البيانات المتباينة لتحسين التنبّؤ بالفقر ورسم خريطة له"، والتى أجراها كلّ من نيتي بوخريال وداميان كريستوف جاك (2017)، تعتبر مثالا عن ذلك إذ تجمع بين البيانات التّقليدية، من قبيل بيانات التّعداد السكاني أو تلك المتعلّقة بالدّخل أو الاستهلاك، والبيانات غير التقليدية التي توفّرها الهواتف المحمولة على سبيل المثال.

بصمات رقميّة

توفّر تسجيلاتُ بياناتِ المكالمات الهاتفية معلوماتٍ عن عادات المستخدمين في جزء مهمّ من المجال التّرابي. وباعتبارها تُوَلَّدُ مع كلّ مكالمة يتمّ إجراؤها أو رسالة نصيّة يتمّ إرسالها، فهي تمكّن من معرفة مكان الاتّصال وزمنه والطّرف الذي اتّصل به المستخدم. هذه البصمات الرّقمية توفّر مؤشّرات عن مستويات امتلاك القراءة والكتابة، واتّجاهات التنقّل، ومستوى النّفاذ إلى الشّبكة الكهربائية في علاقة بالتّوزيع الإقليمي للثّروة.

وقد شملت الدّراسة الاستقصائية التي أُجْرِيَتْ في السّينغال البيانات التي أرسلتها شركة سوناتل للاتصالات Sonatel اعتمادا على 11 مليار مكالمة ورسالة نصيّة صادرة عن تسعة ملايين مستخدم للهاتف المحمول. وأضاف الباحثون إلى هذه المعلومات صور الأقمار الصناعية التي وفّرت معطيات أخرى من قبيل مستوى الإضاءة اللّيلية، والطّرق المعبّدة، وكثافة البنية التّحتية، وحتى نوعيّة أسقف المنازل.

جميع هذه العناصر إذا ما جمعناها مع بيانات التّعداد السكاني تمكّن من رسم مشهد أكثر اكتمالا ودقّة للمستوى المعيشي للسكّان. تقول الأستاذة في قسم الرياضيات والإحصاء بجامعة مونتريال، كريستيان روسو: "الفقر تكشف عنه العديد من حركاتنا. والذّكاء الاصطناعي يمكّن من استغلال بيانات الأبحاث الاستقصائية التّقليدية للتعرّف على نماذج الفقر بهدف أن نتعلّم كيف نجعل عددا من البيانات تكشف عن الفقر رغم أنّه ليس هدفها الأصلي. فذلك أقلّ كلفة بكثير وأكثر دقّة وسهولة في التّحيين.

وقد مكّنت هذه البيانات المخصّبة من رسم خرائط للفقر كفيلة بتوفير رؤية أكثر دينامية. كما تعكس هذه الخرائط، التي تُنجز في مستوى البلديات، التّوزيع المكاني والزّماني للحرمان الاجتماعي-الاقتصادي؛ فهي تبيّن، مثلا، أن البلديّات في المناطق الدّاخلية بالسّنغال تشهد مستويات فقر أعلى من العاصمة داكار والبلديّات السّاحلية.

كنز ثمين للمشاريع التّنمويّة

ومثل هذه الخرائط، هي أدوات تمكّن صنّاع القرار السّياسي من توجيه الدّعم إلى الفئات الأكثر حرمانا. يقول باحث الدكتوراه في المعالجة الرقميّة للبيانات الجغرافية géomatique والمؤلّف المشارك في الدراسة الاستقصائية الخاصّة بالسّينغال، داميان كريستوف جاك، إن "لعِلْمِ رسم الخرائط دور في تنظيم المجال التّرابي، إذ يمكن تحديد الجديرين بالحصول على المساعدات الإنسانية باستخدام بيانات الهاتف مثلا. وهذا ما قامت به، في التوغو، منظمة GiveDirectly التي تعمل على مدّ العائلات بالمساعدات المالية مباشرة عبر الهاتف". وتؤكد كريستيان روس من جانبها على أنّ "الرّياضيات تعمل على الاستغلال الأفضل للموارد المحدودة". 

لا تخلو الفرص التي تتيحها البيانات الضّخمة من إثارة عدد من الأسئلة الحرجة

على إنّ الفرص الواعدة التي توفّرها البيانات الضّخمة لا تخلو من إثارة عدد من الأسئلة. فبيانات الهاتف ملكٌ، في الواقع، لمشغّلي الهاتف الجوّال الذين ليس لديهم مصلحة حقيقيّة في مشاركة هذه البيانات، وغير مستعدّين لذلك. ومن جهة أخرى، فإن هذه البيانات، المتأتية في أغلب الأحيان من مشغّل واحد، لا تعكس حالة جميع السّكان. يقول داميان كريستوف جاك في هذا الصّدد إنّ "بعض الأشخاص يملكون عدّة بطاقات "سيم" SIM، في حين لا يملك آخرون، من الفقراء جدّا أو من كبار السنّ والأطفال، هاتفا أصلا"، مضيفا: "حتّى لو كانت هذه المعلومات المقدّمة ثريّة للغاية، فمثل هذه الجوانب قد تثير أكثر من تساؤل في إطار دراسات علميّة صارمة".

أمّا العائق الآخر، فيتعلّق باستغلال هذه المعطيات الشخصية حتّى وإن كانت تُجمّع حسب المناطق وتُعالج على ضوء المجموعات وليس الأفراد، فلا يمنع من كون استغلالها يطرح إشكالات أخلاقية. ويلخّص داميان كريستوف جاك هذا الإشكال بقوله: "هذه المعلومات تمثّل كنزا ثمينا بالنسبة للمشاريع التنموية، لكنّها تشكّل، في الآن ذاته، خطرا على الحياة الخاصّة. لذلك يتعيّن علينا إيجاد التّوازن بين حماية مصالح الأفراد وخدمة المصلحة العامة".

ويؤكّد داميان كريستوف جاك على أن "البيانات غير التّقليدية هي معلومات تكميلية. وهي نموذج بديل في حالة عدم وجود بيانات التّعداد السّكاني أو نموذج لتعزيز المعلومات في حالة توفّر بيانات مسبقة. وبقدر ما توفّر هذه الطّريقة إشارات حقيقية فهي ليست حلّا سحريا". ويشاطره في هذا الرأي إيمانويل ليتوزيه، مدير منظمة Data-Pop Alliance غير الحكومية ومؤسس برنامج  الخوازميات المفتوحة Open Algorithms (OPAL) الذي يهدف إلى تسهيل النّفاذ إلى بيانات الهاتف المحمول واستخدامها لأغراض اجتماعية في البلدان منخفضة الدّخل.

يقول بأن "مجالات الفقر وأسبابه معلومة عموما. يبقى السؤال الحقيقي عمّا يجب فعله بهذه المعلومات". ولئن لم تفض نتائج الدّراسة المتعلّقة بالسنغال، إلى حدّ الآن، إلى تغيير في السياسات الميدانية، فلا يعني أنّها عديمة الجدوى لأنّها ستساعد على تحسيس صنّاع القرار، كما يقول، مشيرا إلى أنه "يلزم بعض الوقت لتغيير العادات والتصوّرات".

الرّياضيات تخطف الأضواء
اليونسكو
يناير-مارس 2023
UNESCO
0000384081