فكرة

الجائحة: النموذج النرويجي

أثناء الأزمة الصحية المتّصلة بكوفيد 19، كانت السّلطات النرويجية من بين الأوائل التي أنشأت نماذج رياضيّة تعتمد على استغلال معطيات الهاتف الجوّال. فبتوفير معلومات دقيقة عن تنقّلات السكّان، أمكن رسم خريطة دقيقة لانتشار الفيروس.
COU_2023_1_NORWAY_WIDE_ANGLE

ليسبات جايري

صحفيّة في أوسلو، النرويج

من مارس 2020 إلى يونيو 2022، لم يُحظ أرنولدو فريجيسي بدقيقة واحدة لنفسه. فهذا العالم والأستاذ في مجال الإحصائيات في جامعة أوسلو، وفي المستشفى الجامعي بالمدينة، انتُدب في المعهد النرويجي للصحّة العمومية للاشتغال ليلا نهارا مع فريق يعمل من أجل وضع نموذج للجائحة. 

كانت السّلطات الصحيّة في حاجة لمعرفة العواقب المحتملة للجائحة من قبيل مدى انتشارها بين السكّان، والعدد المتوقّع لحالات الإيواء بالمستشفى، وعدد الوفيّات. وهو ما اشتغل عليه الفريق المكلّف بالنّمذجة.

يقول أرنولدو فريجيسي: "كثيرا ما كنّا نشتغل 17 ساعة في اليوم. راتبي يُموَّل من دافعي الضّرائب، وهو ما يُحمّلني مسؤوليّة كبيرة تّجاه المواطنين. فالنّماذج الرياضية تُمكّن من تفسير الوضعيّات المعقّدة وتمثيلها كما هو الشّأن بالنّسبة للجائحة. لذلك عملنا على نمذجة العلاقة المعقّدة بين سلوك الأفراد وانتشار الفيروس والإجراءات المُتّخذة من قبل السّلطات الصحّية النّرويجية".

ترابطات معقّدة

ويضيف أرنولدو فريجيسي أن "النّرويج كانت من أوائل الدّول التي توفّر لديها نموذج جيّد يعتمد على معطيات مُتنقّلة. كانت لدينا بيانات ديموغرافية سابقة موثوقة بخصوص عدد حالات الإيواء في المستشفى ونسب التّحاليل الإيجابية". لكنّه يؤكّد أيضا على أنّ النّموذج الرّياضي لئن يسمح بمتابعة عدد كبير من الأفراد والعوامل التي تؤثّر على مسار المرض، فإنه لا يعطي أبدا صورة دقيقة عن الواقع.

وكما هو الشأن بالنسبة للعديد من البلدان الأخرى، اعتمدت النّرويج على نموذج (ساير SEIR)، وهو نموذج وبائي يُستخدم في توقّع ديناميكية الأمراض المُعدية من خلال تصنيف الأفراد إلى أربع حالات ممكنة: قابل للإصابة [S]، مُعرّض للخطر [E]، مصاب [I] أو منسحب [R]. ولقد قام الفريق بتكييف هذا النّموذج مع الكوفيد-19 اعتمادا على المعطيات الديموغرافية ومعطيات التنقّل والبيانات الوبائية.

يمكّن النموذج الرّياضي من متابعة عدد كبير من العوامل التي تؤثّر على مسار المرض

تقوم النّماذج الأكثر بساطة، مثل تلك المستخدمة في مرض السّرطان، على فرضيّة أنّ عوامل الخطر تظلّ ثابتة في المكان والزمان. لكن الصّعوبة تكمن، عندما يتعلّق الأمر بجائحة، في إمكانية نقل فرد ما العدوى إلى فرد آخر، مما يخلق ترابطات معقّدة.

ويتمتّع أرنولدو فريجيسي بخبرة طويلة في مجال نمذجة الأمراض المعدية. فلقد اشتغل بالخصوص على انتشار فيروس نقص المناعة البشريّة في أوائل التّسعينيات. ويُوضّح في هذا الصّدد أنّ “من بين الاختلافات الكبيرة هو أن فيروس نقص المناعة البشريّة ينتشر ببطء، بينما انتشر كوفيد-19 كالنّار في الهشيم. غير أن لهذين المرضيْن المُعدييْن قاسم مشترك وهو أن الشّخص قد يكون حاملا للمرض دون أن تظهر عليه أعراض، ممّا يعقّد أكثر عملية النّمذجة". 

"صيّادة الكورونا"

إنّ الذي ميّز النّموذج النرويجي هو استعماله لمعطيات الهواتف المحمولة. فبفضل الحصول على معلومات عن حركة تنقّل الأشخاص، أمكن التنبّؤ بدقّة بانتشار الفيروس.

في سنة 2020، وقع اختيار سولفايج انجبراتسن من طرف صحيفة "الأعمال النّرويجية" اليوميّة باعتبارها واحدة من النّجوم الصّاعدة للشّباب النّرويجي، إذ تناولت أطروحتها مسألة استخدام المعطيات المتنقّلة بغرض النّمذجة الرياضيّة للأنفلونزا. وكان أرنولدو فريجيسي مؤطّرها. وفي أوائل سنة 2020، انضمّت إلى فريق مبتكري النماذج الذي أطلق عليها اسم "صيّادة الكورونا".

معطيات الهواتف المحمولة سمحت بتدقيق نماذج انتشار العدوى

وقد رُخِّص للفريق في استغلال معطيات منظومة الهاتف الجوّال لشركة تيلينور للاتّصالات اللّاسلكية التي تُزوّد ما يقرب من نصف سكّان البلاد. وتوضّح سولفايج إنجبراتسن: "كنا نتلقّى، كل ستّ ساعات، معطيات متحرّكة تشير إلى التنقّلات داخل المحيط البلدي. ومن خلال رسم خرائط هذه التّنقلات، أنشأنا نماذج لانتشار العدوى داخل المناطق البلدية النّرويجية".

إدارة المجهول

تُقاس سرعة انتقال الفيروس بالرقم R، أو نسبة تكاثر الفيروس التي تُحصي كافّة حالات كوفيد-19 الناجمة عن شخص مصاب. ويُعتبر تطوّر الجائحة قد توقّف عندما يكون R دون 1. وفي نموذج الحال، اعتمد رقم R على البيانات الواردة من المستشفيات وعلى نتائج التحاليل. وحيث أن هذه الأخيرة لم تعد إجباريّة، فهو يعتمد حاليا على حالات الإيواء في المستشفيات وحدها.

يتذكّر أرنولدو فريجيسي قائلاً: "كنّا دائمًا خائفين من ارتكاب الأخطاء". وفعلا، فإنّ مشاريع البحوث تخضع نتائجها، عموما، إلى عملتيْ تثبّت أو ثلاث، وهو ما يستحيل إنجازه في حالة الطوارئ التي فرضتها الجائحة. وليس ضيق الوقت هو التّحدي الوحيد المطلوب رفعه، إذ كان على الفريق أن يُتابع باستمرار التّغييرات الحاصلة في الاستراتيجيات، والسلوكيات، وطرق التقصّي، ومتغيّرات الفيروسات. ومع كل تحوّل، كان لا بدّ من تكييف النّموذج.

وتُوضّح سولفايج انجبراتسن قائلة: "ليس من السّهل علينا، نحن معشر البشر، إدارة المجهول والتّعامل مع الأعداد الكبيرة. فالنّماذج الرّياضية والإحصائيات هي أداة منهجية لجمع كافّة المعلومات المتوفّرة لدينا حول الفيروس"، مضيفة أن المعهد النرويجي للصحّة العمومية قد استعمل أيضًا نماذج أخرى.

ويمثّل إيصال هذا التّعقيد إلى الجمهور تحدّيًا آخر. "لقد انتُقدنا في بعض الأحيان لكوننا كنّا متشائمين أكثر من اللّزوم، خاصّة فيما يتعلّق بالإيواء في المستشفيات. والحال أنّه وقع اتّخاذ إجراءات إضافيّة في هذا المجال في حين أنّ توقّعاتنا لم تأخذ في الاعتبار تأثير تلك الإجراءات الجديدة".

ويُنهي أرنولدو فريجيسي قوله بأنّه "يجب على العلماء أن يتعلّموا كيف يفسّرون الأشياء المعقّدة، ولكن يجب أيضا على المسؤولين السّياسيين والمواطنين أن يفهموا أنّ الأمر يتعلّق بمعلومات معقّدة تتطلّب بعض الجهد من طرفهم إذ لا يمكن تبسيط كلّ شيء" مُذكّرا أن إدارة جائحة ليست مسألة أرقام وإحصائيات فقط، "فالأبعاد الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية لها وزنها أيضًا عندما يتعلّق الأمر باتّخاذ قرارات".

الرّياضيّات تخطف الأضواء
اليونسكو
يناير-مارس 2023
UNESCO
0000384081