فكرة

المظلّة الغابية، اكتشافات في القمّة

بعد أن كان الوصول إليها متعذّرا لفترة طويلة، بدأت المظلّة (قمّة الغابة) في الكشف عن بعض أسرارها منذ أن أتيحت للعلماء إمكانية استكشاف هذا النظام البيئي المعقّد. ناليني نادكارني، أستاذة علم الأحياء بجامعة يوتا (الولايات المتحدة)، هي واحدة من هؤلاء. فهي تصف عالمًا يزخر بتنوّع نباتي وحيواني لم يكن متوقّعا.
Nalini Nadkarni canopy Costa Rica’s Monteverde forest

أجرت الحوار كاترينا ماركيلوفا

اليونسكو

 

قَضّيْتِ أربعة عقودٍ في دراسة المظلّة. ما الذي نشاهده، تحديدا، عندما نبلغ قمّة الأشجار؟

عند الصّعود إلى المظلّة، على ارتفاع 30 مترًا فقط فوق سطح الغابة، كنت أتفاجأ دائمًا بالفوارق المذهلة، سواء فيما يتعلّق بالمناخ المحلّي المصغّر أو بالبيولوجيا. وقبل الوصول إلى الأشجار التي أقوم بدراستها في مونتيفردي، في كوستاريكا، كان عليّ أن أمشي لمدة ساعة تقريبًا في المنطقة شبه المظلّلة من الغابة والمتميّزة بالرّطوبة. كانت الغابة تبدو وكأنّها مجموعة من الأسطوانات النّحيلة، ومظلّتُها عبارة عن كتلة خضراء ضخمة غير واضحة الحدود، ألوانها باهتة، وأصواتها مكتومة؛ ولا وجود للرّيح فيها.

ولكن عندما نشرع في الصّعود، نحسّ بتغيير تدريجي للبيئة كلّما اقتربنا من قمّة الأشجار. فالمناخ المحلّي المصغّر يختلف كثيرًا هناك حيث الإشعاع الشّمسي أهمّ بكثير، ودرجات الحرارة أعلى، والرّياح أقوى. كما إنّ المحيط الصّوتي ثريّ جدًا إذ يتراوح بين أزيز الطّيور الطنّانة وعواء القردة الصّارخة. وهناك تكثر أيضا زهور الأوركيد والبروميلياد على نحو مدهش. كما نجد في المظلّة تنوّعا كبيرا في اللاّفقاريات. وقد تطوّرت على مرّ آلاف السنين جميع هذه الأجناس النّباتية والحيوانية التي لن نشاهدها إطلاقا على سطح الغابة، وتأقلمت مع هذه البيئة المصغّرة وتلك الهندسة الفريدة من نوعها.  

حتّى وقت قريب، كان علماء بيئة الغابات يدرسون النّظم البيئية المعقّدة للمظلّة دون مغادرة سطح الأرض. فما الذي تغيّر منذ أن غامر العلماء ببلوغ المظلّة منذ أربعين سنة؟

في سنة 1983، استخدم عالم الحشرات، تيري إروين، من معهد سميثْسُونيان (الولايات المتحدة) بُخارا مُبيدا للحشرات لدراسة الخنافس والحشرات في الغطاء الغابي. في الواقع، كان يرشّ هذا البخار على المظلّة عند الفجر كي يجعل الحشرات تسقط على الأرض. فاكتشف، وسط هذه المظلّة، أنواعا مختلفة من الحشرات لم يكن أحد يعلم بوجودها وهو ما دفعه إلى وصف المظلّة بالحدّ الحيوي الأخير.

أجناس مُتنوّعة من الحشرات تمّ اكتشافها في المظلّة، ودفعت بالعلماء إلى وصف هذا الوسط بالحدّ الحيوي الأخير

بعد ذلك، وصل بعض الروّاد إلى المظلّة عن طريق التسلّق. ومثّل ذلك منعرجا حقيقيا في فهم هذه النّظم البيئية، والتمكّن من دراسة الكائنات وسط بيئتها. وسرعان ما طُوّرت طُرُق أخرى، مثل الممرّات بين المظلّات لمعاينة سلوك الثدييّات والطّيور الشجريّة، واستخدام رافعات البناء للصّعود فوق المظلّة بغية دراسة التّفاعل بين واجهتي الغلاف الجوّي والكائنات الحيّة. ولقد ابتكر فريق فرنسي، بقيادة فرانسيس هالي، طوّافة القمم، وهي منطاد يشتغل بالهواء السّاخن قابل للتّحكّم فيه عن بعد، ومُجهّز بطوّافة قادرة على الهبوط فوق المظلّة والتنقلّ بين الأشجار. ومنذ زمن غير بعيد، أصبحنا نستخدم الاستشعار عن بعد وصور الأقمار الاصطناعية والطائرات بدون طيار.

تُمثّل النباتات الهوائيّة épiphytes -التي تنمو فوق نباتات أخرى مثل الأوركيد أو الطّحالب أو السّراخس- مجالك الرئيسي في البحث العلمي. ما هو الدّور الذي تلعبه في النّظام البيئي للغابات؟

النّباتات الهوائية هي مجموعة متنوّعة جدًّا من النّباتات التي تحملها الأشجار ولكن، خلافا للنّباتات الطفيلية، ليس لها جذور متّصلة بنظام الأوعية القنوية لمضيفها. ولقد اكتسبت أثناء نموّها القدرة الفيزيولوجية والتشريحية على التقاط العناصر الغذائية الجوية الموجودة في الأمطار وفي قطرات الضّباب، والاحتفاظ بها.

فهي تلتقط العناصر الغذائية المُتأتية من خارج النظام البيئي وتوفرها للنّباتات والحيوانات الموجودة داخل هذا النظام البيئي. ولقد بيّنت إحدى دراساتنا أن موارد النّباتات الهوائية معنية بثلث عمليات البحث عن الرّحيق والسكّر والطّحالب من طرف الطيور والثّدييات الشجرية. وأنّ ستّة أجناس من الطّيور متخصّصة في النباتات الهوائية حيث تزورها في أكثر من %90 من سعيها للبحث عن الطّعام. واستنتاجنا، المؤيَّد من دراسات أخرى، هو أن النّباتات الهوائية تلعب دورًا حاسما في السّلسلة الغذائيّة.

قُمتِ بدراساتٍ حول مظلّات الغابات في القارّات الأربع. ما هي أهمّ اكتشافاتك؟

النّباتات الهوائية، عندما تتحلّل، تشكّل تُربة المظلّة التي قد يبلغ سُمكها المتر الواحد. هذا الدّبال غنيّ بالمغذّيات وتسكنه اللّافقاريات والميكروبات وديدان الأرض. وبإمكان بعض الأشجار، انطلاقا من فروعها وجذوعها، تنمية جذور تخترق الغطاء الدّبالي للمظلّة لتجلب منه المغذّيات والماء. وقد أذهلتني حقّا قدرة الأشجار على إنبات جذورها في مستوى أعلى بكثير من أرضيّة الغابة. 

تعلّمت أيضًا أن النّباتات الهوائية، التي تبدو على قدر كبير ومذهل من الحيويّة والقوّة، غير قادرة على مقاومة الاعتداءات المادّية. لقد أجريت سنة 1987 سلسلة من التجارب تمثّلت في تجريدٍ كاملٍ لبعض الفروع من غطاء النّباتات الهوائية الذي يكسوها على طول متر واحد بهدف التّثبّت من قدرتها على التجدّد. كنت أتوقّع أن تنبت من جديد بسرعة كبيرة باحتلالها المنطقة العارية الخارجية، كما هو الشّأن بالنسبة للعشب. لكني كنت مخطئة في كلا الأمرين. إذ لم أشاهد أولى علامات إعادة الاحتلال إلا بعد مضيّ 13 سنة، ولم يستعد الغلاف الأصلي حالته الأولى سوى بنسبة %40 فقط وبعد انقضاء 22 سنة.

ما هي الأجناس الجديدة التي تعيش في المظلة والتي تم اكتشافها؟

نحن نكتشف باستمرار أجناسا جديدة، وخاصة زهرات الأوركيد واللافقاريات. لكن من الصعب جدا، وربما من المستحيل، تقدير عدد الأجناس التي لم يتم اكتشافها بعد ويعود ذلك، جزئيًا، إلى عدم معرفتنا بما هو موجود فعليا. نحن قادرون على القيام بذلك بالنسبة لمجموعات أخرى من النباتات، مثل الأشجار. هناك دراسة نُشرت سنة 2022 في المجلة العلمية الأمريكية بروسيدنجس أوف ناشيونال أكاديمي أوف ساينس (إجراءات الأكاديمية الوطنية للعلوم)، قدّرت عدد أنواع الأشجار بـ 73.000 نوعًا في العالم و بـ 9.000 نوعا ما زلنا لا نعرفها. وبكل بساطة، لا يتوفّر لدى الباحثين في مجال المظلاّت مثل هذا النوع من قواعد البيانات في هذه المرحلة.

نكتشف باستمرار أجناسا جديدة في المظلّة، وخاصة زهرات الأوركيد واللاّفقاريات

وجّهتِ اهتمامكِ منذ منتصف السبعينيات إلى الغابات السحابية في كوستاريكا، في مونتيفردي. ما هي خصوصياتها؟ 

تمثل الغابات السحابية نسبة صغيرة جدًا من مناطق الغابات وتتميّز ببنية وتكوين ووظيفة فريدة من نوعها. فهي تنمو في الجبال الاستوائية، وتتمثل خاصيّتها المناخية الرئيسية في وجود ضباب وغيوم تحملها الرياح. عندما ينشأ بخار الماء فوق المحيط ثمّ ينتقل إلى داخل الأراضي بفعل رياح الأليز، تعترضه الجبال فتنخفض حرارته، ويتحوّل إلى ضباب وسحب. هذا الهواء الرّطب يُوفّر العناصر الغذائية للغابات السّحابية. ومع تغيّر المناخ، أصبح الأمر يتطلّب وقتا أطول وارتفاعا أعلى ليحدث هذا التكثّف. ونتيجة لذلك، أصبحت الغابات أقلّ عرضة للغيوم المغذيّة التي تنتقل، في بعض الحالات، إلى القمّة، بل وحتى فوق الجبال، دون أن أيّ تماسٍّ مع الغابات.

إن مساهمة الغابات السحابية في التنوع البيولوجي العالمي عالية جدا، لأنها تأوي العديد من الأنواع المستوطنة. عندما كنت طالبة في المرحلة العليا، كان الضّفدع الذهبي أحد تلك الأنواع المستوطنة المُدهشة للغابات السحابية. كان بإمكاننا مشاهدة هذا المخلوق ذي الألوان البرّاقة خلال موسم الجفاف فقط، في فترة التكاثر. ولقد تسببت ظاهرة النينيو، التي حدثت في كوستاريكا سنة 1988، في انقراضها. 

أنت تخصصين جزءًا من وقتك لتحسيس الرأي العام بالدّور الحاسم للغابة. هل تشعرين بأنّ صوتك مسموع ؟

علاوة عن قيمتها البيئية الوحيدة، تؤثر الغابات على عديد القيم الأساسية الأخرى، سواء كانت جمالية أو اقتصادية أو روحانية. فعندما نكون باتصال بالغابة، نشعر براحة جسدية، وينخفض ​​توترنا وقلقنا. لقد حاولت طيلة سنوات عديدة تنظيم ندوات علمية ومشاريع حفظ خارج الوسط الجامعي. توجّهت، مثلا، إلى السجناء الذين لا يستطيعون الوصول إلى الطبيعة، ولاحظنا تحسّنا في صحتهم العقلية.

كما إنّ الغابات تلهم الفنون والشعر والموسيقى. عندما أدعو فنانين إلى المظلة، فإنهم يبدعون أعمالا في مجال الفن المرئي، وموسيقى الرّاب، والقصائد الشعرية التي يؤدونها لاحقا في قراءات أو عروض رقص حديث. فأن نجلب قيم الطبيعة إلى هذه الأماكن، قد نوفّر حظوظا أكبر لزيادة عدد الأشخاص والمساهمين في الحفاظ على الغابات. أعتقد أن العلماء يجب أن يساهموا في ذلك.

نداء الغابة
رسالة اليونسكو
يوليو-سبتمبر 2023
UNESCO
0000385901