فكرة

تشيلي، البلد الرائد في حماية "الحقوق العصبية"

ربّما يكون هذا البلد أوّل من يَسُنُّ تشريعات حول التّقنيات العصبيّة، وأوّل من يُدرج في دستوره "حقوق الدّماغ".

لورينا غوزمان هـ.

صحفية في سانتياغو بالتشيلي

في سنة 2021، صادق مجلس الشيوخ التشيلي، بالإجماع، على مشروع قانون لتعديل الدّستور بهدف حماية حقوق الدّماغ أو "الحقوق العصبيّة". وقد نظر مجلس النوّاب في هذا التشريع الجديد وصادق عليه في نفس السنة في انتظار إصداره من قبل رئيس الجمهورية. وإذا ما استوفت العمليّة جميع مراحلها، فستصبح تشيلي أوّل دولة لها تشريع يهدف إلى حماية السّلامة العقليّة، والإرادة الحرّة، وعدم التّمييز في نفاذ المواطنين إلى التّقنيات العصبيّة. والغاية من ذلك هي إضفاء صفة العضو الجسدي على البيانات الشخصية حتى لا تتحوّل إلى موضوع اتّجار أو تلاعب بها.

في ذات الوقت، يجري النّظر في إصلاح دستوريّ لتعديل الفصل 19 من "الكارتا ماجنا" Carta Magna (الميثاق الأعظم)، أي دستور البلاد، من أجل "حماية سلامة الدّماغ من تبعات التّقدّم الذي أحرزته التكنولوجيّات العصبيّة والقدرات التي طوّرتها".

قد يبدو تبنّي مثل هذه التّرسانة القانونيّة سابقًا لأوانه بالنّظر إلى تطوّر التّقنيات العصبيّة، التي ما زالت محدودة من حيث قدرتها على التّأثير على الدّماغ البشري. لكن الخبراء فضّلوا دقّ أجراس الخطر وأصرّوا على ضرورة التّشريع قبل تعميم التّطبيقات الدّخيلة، خاصّة وأن التّقدّم في مجال التكنولوجيا العصبيّة ما فتئ يتسارع.

ففي أبريل الماضي 2021، نشرت شركة "نورالينك" التابعة لـ "إيلون موسك" Neuralink d'Elon(link is external) Musk  شريطا لقرد يستخدم التّخاطر عن بُعد للتّعامل مع لعبة فيديو. واعتمدت التّكنولوجيا المستعملة واجهة مشتركة بين الدماغ والآلة، ما زالت في بداياتها، لكنّها تفتح الطريق أمام تطبيقات لا نهاية لها.

ربّما يصبح تشيلي أوّل بلد يَسُنّ تشريعاتٍ لحماية السّلامة العقليّة

انحرافات خطيرة

إنّ ازدياد الإنجازات التكنولوجيّة هو الذي كان دافعا وراء اهتمام لجنة تحدّيات المستقبل التابعة لمجلس الشيوخ التشيلي(link is external)، منذ ثلاث سنوات، بالتّقنيات العصبية. فإثر زيارة قام بها رفائيل يوست، عالِم البيولوجيا العصبيّة وأحد مؤسّسي مبادرة الدّماغ(link is external)، وهي مبادرة أمريكية تهدف إلى رسم خريطة للعقل البشري، أبدى المجلس انشغاله بالمخاطر التي قد تنجرّ عن هذا التّقدّم على الأمن البشري والإرادة الحرّة.

 فتطوّر التّقنيات العصبية لئن كان مبعث أمل للعديد من المرضى، وخاصّة منهم المصابون بالشّلل أو بأمراض تنكّسية مثل مرض باركنسون أو ألزيهايمر، فهو يفتح الإمكانية، أيضا، أمام التّلاعب بالدّماغ البشري.

وفي هذا المجال، يُؤكّد السّيناتور غيدو جيراردي، رئيس الّلجنة، وأحد المبادرين بمشاريع القوانين على أنّ "القوانين يجب أن تتطوّر بسرعة"، مُضيفا: "تُوجد الآن تقنيات قادرة على قراءة ما يجول داخل الدّماغ مباشرة، وبإمكانها فكّ شفرات ما يفكّر فيه الأشخاص وما يشعرون به، إضافة إلى كونها قادرة على أن تزرع فيهم أحاسيس ومشاعر ليست لهم".

وعلاوة عن التّكنولوجيا ذاتها، فإن التّطبيقات التي قد تترتّب عنها هي التي تبعث عن الانشغال. ويُحذّر كارلوس أموناتيغوي، من كلية الحقوق في الجامعة البابوية الكاثوليكية في التشيلي، وأحد الخبراء المُكلّفين من قبل لجنة تحدّيات المستقبل بصياغة مشاريع القانون، قائلاً: "إذا انتظرنا أن تبلغ هذه التكنولوجيّات مرحلة النّضج، فقد لا نتمكّن أبدًا من تأطيرها". 

من جهته، يرى بابلو لوبيز سيلفا، عالم النّفس والأستاذ بجامعة فالبارايسو أنه "سيكون من السّذاجة الاعتقاد بأن هذا التّقدّم لن تترتّب عنه تطبيقات تجاريّة"، مُضيفا: "إذا كان تطوير هذه التّقنيات لا يمثل مشكلا في حدّ ذاته، فإنّه يمكن أن يؤدّي إلى انحرافات خطيرة في غياب القوانين".

ويتابع قائلا: ذلك أن هذه التّطبيقات يمكن اختراقها أو أن تُزجّ فيها "ملفّات تعريف ارتباط عصبية" neurocookies، تسمح بالتعرّف على تفضيلات المستهلك أو ميولاته، أو حتى زرع تفضيلات أو ميولات جديدة.

يجب أن يكون التّشريع متّسعا ومرنا بما يكفي ليكون قادرا على التكيّف مع التّطوّر التكنولوجي

فراغ قانوني

ليست التشيلي الدّولة الوحيدة المنشغلة بالفراغ القانوني في مجال التكنولوجيّات العصبيّة. فالأرجنتين، وإسبانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، قد شرعت بدورها في التّفكير في الموضوع. كما أدرجت كلّ من الأمم المتحدة ومنظّمة الدّول الأمريكية هذه المسألة ضمن اهتماماتها.

على أنّ المهمّة تظلّ معقّدة إذ يجب أن يكون التّشريع متّسعا ومرنا بما فيه الكفاية حتى يكون قادرا على التكيّف مع التّطوّر التّكنولوجي وضمان حماية المواطنين في ذات الوقت. "غير أن المشاريع التي هي في طور الدّراسة لا تُعرّف بدقّة ما يعنيه النّشاط العقلي أو التّواصل بين الخلايا العصبية"، وهو ما يأسف له بيدرو مالدونادو، مدير قسم علوم الأعصاب والباحث في معهد البحوث في علم الأعصاب بكليّة الطبّ بجامعة تشيلي.

قد تبدو المسألة نظريّة، ولكنّها بالغة الأهميّة باعتبار أن علوم الأعصاب تقع على الحدّ الفاصل بين نشاط الدّماغ وما يحددّ هويّة الأفراد ذاتها. ويلخّص بابلو لوبيز سيلفا المسألة بقوله: "نحن البشر أكثر بكثير من مجرّد نشاط عصبي، حتى وإن كان واضحا أنّ هذا النّشاط ضروري لنكون الشّخص الذي نحن عليه".

كما أن التّشريع المتعلّق بتأطير علم الأعصاب يطرح أيضًا مسألة الموافقة. فقبل منح التّرخيص لأيّ تطبيقة تستغلّ بيانات عن عاداته، يجب أن يكون المواطن/المستهلك قادرًا على اتّخاذ القرار عن بيّنة تامّة، أي عارفا، بدقّة، كيف سيتمّ استخدام هذه البيانات. لذلك من الضّروري، كما يؤكّد بابلو لوبيز-سيلفا، أن يكون استخدام البيانات شفّافًا.

والقضيّة الحاسمة الأخرى، هي مسألة النّفاذ. فمن الضّروري أن يتمكّن الجميع، فعليا، ودون تمييز، من الاستفادة من التقدّم النّاتج عن التّكنولوجيات العصبيّة حتى لا يقتصر استعمالها على الأقليّة. وهي إشكالية ما زالت محاطة ببعض الغموض.

وهنا يتساءل بيدرو مالدونادو بقلق: "كيف يمكننا ضمان النّفاذ العادل إلى هذه التكنولوجيا؟ فالنّصوص ليست واضحة بما فيه الكفاية حول هذه المسألة".

Should we be afraid of neurosciences
UNESCO
janvier-mars 2022
UNESCO
0000380264