فكرة

المسارات المهنية العلمية ما زالت تُخيف النّساء في سنغافورة

في حين يتساوى أداء الطّالبات السّنغافوريات من حيث الكفاءة مع زملائهم الذّكور، بل لعلّهنّ الأفضل في مادّة الرياضيات، فإنّ الفتيات يمثّلن أقليّة في الوظائف العلميّة أو التكنولوجيّة. والسّبب هو انعدام الثّقة في أنفسهنّ والتي تصرفهنّ عن هذه المهن المعروفة بكونها ذكورية.
COU_2023_1_SINGAPOURE_WIDE_ANGLE

راشيل جينفياف شيا

صحفية من سنغافورة

كلّما اعترضتها صعوبات في عملها، تأخذ جويل ليم، المختصّة في تشفير البيانات والبالغة من العمر 27 سنة، في التّشكيك في نفسها، ويجتاحها شعور بالوقوع تحت وطأة تلك التّعليقات المنغصّة التي يُطلقها بعض الرّجال، ملمّحين من ورائها إلى أنّ نجاح المرأة يعود إلى التّمييز الإيجابي لفائدتها وليس إلى كفاءتها. 

وجويل ليم باحثة في الخدمات الدّفاعية لتلك الدّولة الجزيرة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 5.9 مليون نسمة، وهي واحدة من بين العديد من السّنغافوريات اللاتي ما انفكّت أعدادها تتزايد في قطاع العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرّياضيات (STEM). 

وبهدف جلب الكفاءات النسائية في هذه المجالات، كثّفت هذه  الدّولة-المدينة من جهودها لإبقاء النّساء في مسارهنّ المهني من خلال معالجة أسباب هذا العزوف، سواء بإزاحة "السّقف الزّجاجي" (الذي يحدّ من ارتقاء النساء في مسارهنّ المهنّي) أو بتوفير البنية الضرورية لرعاية الأطفال. بيد أنّ هناك عقبة أخرى أقلّ مرئية وأكثر مكرا من شأنها صرف النساء عن المهن العلمية، ألا وهي الافتقار إلى الثّقة.

أرقام معبّرة

وفق دراسة حديثة أجرتها جامعة نانيانغ التكنولوجية (NTU)، تفتقر النساء السنغافوريات إلى الثقة في قدراتهنّ في الرياضيات أكثر من نظرائهم الذكور. وهذا الاستنتاج كان مثار اندهاش نظرا لأنّ الأداء الأكاديمي للفتيات في الرياضيات متساو مع أداء الفتيان.

ويحتلّ الطلّاب السّنغافوريون من كلا الجنسين أفضل المراتب في التّقييمات العالمية مثل البرنامج الدّولي لتقييم مكتسبات الطلبة (PISA). وحسب المتحدث باسم وزارة التعليم فقد تمّت مراقبة الكتب المدرسية والمواد التعليمية الخاصة بالرياضيات بعناية أكبر لتجنّب أي تسرّب لقوالب نمطية متحيّزة جنسيا.

وفي سنغافورة، تسجّل الفتيات معدّلات نجاح أفضل نسبيا من الأولاد. فوفقًا لبيانات حكومية تمتدّ بين سنتي 2005 و2020 فاق عدد الطّالبات الإناث الحاصلات على شهادات في العلوم الطبيعية والفيزياء والرياضيات عدد الطلبة الذكور حيث ظفرن بـ 62٪ من المقاعد في احتفالات التخرّج.

ما يقارب نصف الخرّيجات من اختصاصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرّياضيات يشتغلن في مهن لا علاقة لها بدراستهنّ

لكن يبدو أن الفتيات يفقدن هذا التقدّم عند اقتحام سوق العمل. تقول الأستاذة المبرّزة في الهندسة الحيوية ومؤلّفة الدّراسة التي أجرتها جامعة نانيانغ التكنولوجية والمذكورة سلفا (NTU)، سيرين ليم، أن نسبة النّساء في المهن المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا منخفضة بشكل يدعو إلى الاستغراب. وكشفت الدّراسة عن أنّ ما يقارب نصف الخرّيجات من هذه الاختصاصات يشتغلن في مهن لا علاقة لها بدراستهنّ. ووفق بيانات وزارة القوى العاملة لعام 2020 تمثّل النساء ثلث العاملين فقط في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرّياضيات.

نقص في الثّقة

تدرس أستاذة علم النّفس في جامعة سنغافورة للتصرّف، تشنغ تشي-يينغ، مستويات الثّقة لدى الطّالبات الجامعيّات في علوم الكمبيوتر وأنظمة المعلومات. وكانت النتائج الأوّلية لأبحاثها مبعث قلق شديد؛ فالطّالبات أبدين، منذ السّداسية الدّراسيّة الأولى، نقصا في الثّقة بالنّفس مقارنة بالذّكور، ليتعمّق هذا النّقص مع تقدّم السّنة.

وتعزو تشينغ تشي يينغ ذلك إلى القوالب النّمطية الجندرية: "تحتفظ الصّناعة بصورة ذكورية عن المِهَنِي المثالي في ميادين العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، لذلك يتعيّن على النّساء بذل المزيد من الجهد للاندماج".

ولمثل هذه الضّغوطات عدّة تجلّيات تترواح بين الحزم المفرط في تأكيد الذّات وكبت أيّ مشاعر؛ تقول الأستاذة تشينغ أن الطّالبات "يجدن صعوبة في التّوفيق بين هويّتهن المهنية وهويّتهن الجندرية، وعدد منهنّ لا يتوفّق في ذلك".

وترى جورجيت تان، رئيسة اتّحاد النّساء بسنغفورة (United Women Singapore)، وهي منظمة غير ربحية تدافع عن المساواة بين الجنسين، أنّ مرحلة المراهقة هي التي يتحدّد فيها كلّ شيء: "فالفتيات يُخبرننا بأنّ آباءهنّ يشجّعون إخوتهم الذّكور على العمل في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات أكثر مما يشجّعنهنّ، وبعض [هؤلاء الأولياء] مازال مؤمنا بكون المهن في هذه المجالات غير ملائمة للنّساء. فالقوالب النّمطية (الكليشيهات) يعسر تخطّيها".

ولمعالجة هذ المسألة، يدير اتّحاد النّساء برنامجا استقبل فيه منذ عام 2014 حوالي 26000 مراهقة تتراوح أعمارهن بين 10 و16 عامًا. وتأمل جورجيت تان أن "يُدرك الأولياء أن بناتهم قادرات على التألّق في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وبإمكانهنّ الحصول على وظيفة جيّدة تضمن لهنّ حياة كريمة".

أمثلة ملهمة

ولئن كانت الخطوة الأولى تكمن في التصدّي لتلك المسلّمات، فإنّ الخطوة الثّانية على هذا الطّريق تتمثّل في اقتراح نماذج يُحتذى بها تُثْبِتُ للنّساء أنّ ارتقائهنّ في المسارات المهنية التي يرغبن فيها أمر ممكن. تقول جورجيت تان بأن "الفتيات يحتجن إلى من يلهمهنّ".

لذا أضافت المنظّمة عنصر رعاية وتوجيه إلى برنامجها للعام الماضي، كما ينظّم فريقها دورات تدريبية لإعداد النساء إلى عالم الأعمال وتدريبهنّ على مهارات من قبيل تحضير الاجتماعات. وتوضّح جورجيت تان أنه "عندما تلجُ هؤلاء النساء سوق العمل، لا بدّ أن يكنّ جاهزات عمليّا منذ البداية؛ لذا فإنّ إعدادهنّ لوظيفتهن الأولى يُعدّ من أوكد الأشياء".

في السنوات الأخيرة، تضاعفت المبادرات الهادفة لتسهيل انتقال المرأة نحو مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات

ولغاية "دعم القدرة على الصّمود والمداومة"، تخطّط جامعة نانيانغ التكنولوجية أيضًا لفتح قنوات تواصل بين الطّالبات في اختصاصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، والمدرّبين في مجال الصناعة، وتنظيم ورشات عمل لتعليم المهارات الشخصية غير التقنية مثل التّواصل والإدارة والتسيير الذاتي.

كما تستعدّ وزارة التعليم السنغافورية، من جانبها، لإطلاق برنامج للمنح الدّراسية في ميدان الهندسة الفنية والتكنولوجيا، وهو ما سيوفّر لخريجي المدارس الثانوية أسسًا متينة في العلوم والرّياضيات ونفاذا مبكّرا لاكتساب تجربة العمل في المؤسّسات.

طيف من الاحتمالات

هذا، ويمثّل نقص الآفاق المهنية للفتيات اللاتي يُفضّلن الرياضيات الصّرفة -غير التطبيقية- تحدّيًا آخر أمامهنّ. 

تقول الأستاذة المحاضرة في الرياضيات بجامعة نيويورك، شارمين سيا، مستحضرة ذاكرتها بأنّ الشعار كان: "تحصّل على شهادتك أوّلاً، وسنرى لاحقا". فهذه المرأة السنغافورية البالغة من العمر 35 عامًا سنة 2006 والحائزة على جائزة أليس تي. شيفر للرياضيات، اكتشفت أنه لا وجود لأيّ منحة دراسية لإعداد الدّكتوراه في الرّياضيات الصّرفة في الخارج قبل الحصول على مهنة على عين المكان. ورغم ذلك، كما تقول "من كان ليظنّ أنّ شركات وول ستريت ستتنافس بعد ذلك على توظيف جميع خريجي الرّياضيات وعلوم الكمبيوتر.".

ومع هذا، فإنّ الدّراسة في مجال الرياضيات تفتح آفاقا عديدة للخرّيجين، خاصّة في مجال الماليّة.

تشير جايا داس، المديرة التنفيذية لشركة رانستاد سنغافورة، إلى أنّ وكالة التشغيل الخاصة بها توفّقت في إيجاد وظيفة لنصف المترشّحات الخمس عشرة من المتخصّصات في الرياضيات في ميدان المالية في الأشهر الستّة الماضية. وتضيف بأن "المتحصّلات على ديبلوم الرّياضيات بدأن يدركن أنّه توجد طرق أجدى وأكثر ملاءمة  لتوظيف شهائدهنّ".

هذه التّغييرات في التوجّه بدأت منذ عقود، ولعلّ أنجلين تان، مديرة الخدمات المالية في شركة استشارية في سنغافورة، والبالغة من العمر 54 سنة، هي خير مثال على ذلك؛ فقد حصلت على شهادتين مزدوجتين في الرياضيات والفيزياء، ولكنها تركت التّدريس في عام 1995 بسبب عبء ساعات العمل. وهي تؤكّد أنّ المشكلة لا تتعلّق أبدا بالثّقة في النّفس "بل إنّ ارتياحي للأرقام قد أمدّني بالثقة بالنّفس". 

ولربّما سنشهد توافد الفتيات الحاصلات على شهائد في الرياضيات على قطاعات لعلّ الأكثرها إغراء اليوم قطاع التكنولوجيا بوظائفه المتّصلة بالبيانات والبرمجيّات والذكاء الاصطناعي، والذي يشهد ازدهارا ملحوظا.

من جانبها، تعتزم جايمي ليم، البالغة من العمر 17 عامًا، اختيار شعبة علوم الكمبيوتر عند بلوغها الجامعة في غضون عامين. وتقول هذه الفتاة الطالبة في المدرسة الثانوية للرّياضيات والعلوم بسنغافورة  NUS، والتي مثّلت بلدها في الأولمبياد الإقليمية للرّياضيات وعلوم الكمبيوتر، إن "الفرص المهنية متوفّرة أكثر، ويمكنني مواصلة ممارسة الرّياضيات". ثمّ تضيف بكلّ ثقة في قدراتها أنّها تأسف لكون النّساء المؤهّلات ينصرفن عن المهن المرتبطة بالرّياضيات. "شخصيا، عندما أمارس شيئًا أحبّه فعلا، فلن أستسلم بسهولة"، قبل أن تستدرك بقولها أنّها "تدرك أنه من الصّعب الجزم باعتبارها لم تبلغ بعدُ هذه المرحلة".

الرّياضيات تخطف الأضواء
اليونسكو
يناير-مارس 2023
UNESCO
0000384081