فكرة

إثيوبيا، قهوة الأصول

تقول الأسطورة إنّنا نُدين لراعٍ حبشي باكتشاف الفضائل المنبّهة للقهوة، هذا المشروب الذي كان استهلاكه مقتصرا، تاريخيًا، على الجالية المسلمة قبل أن يتحوّل إلى عنصر وصل بين مختلف الجاليات في البلاد. والقهوة، التي يُنتظم حولها حفل له طقوسه وقواعده أيّام الأعياد، حاضرة على الدّوام في الحياة اليوميّة للأثيوبيّين.
COU-02-23-GA-ETHIOPIE-01:

إيلوا فيكاي

في إثيوبيا، تُعدّ القهوة عنصرا محوريًا في الحياة اليومية حيث تُقدّم في كلّ مكان وفي جميع المناسبات بسعر زهيد. وهي عامل قويّ في دعم التآلف والمؤانسة وتمتين الرابطة الاجتماعية. في العاصمة أديس أبابا، كما في سائر مدن البلاد، يمكن احتساؤها في الشارع جلوسا على الرّصيف على كرسي صغير لتبادل أخبار الأجوار. كما نجدها في الفنادق الفاخرة الموجّهة للحرفاء الدّوليين، أو في المطارات، حيث يتمّ إعدادها حسب الطّقوس المعهودة على منصّة صغيرة.

ويحرص الأثيوبيين في كلّ بيت على الحفاظ على رشاقة الحركات المرتبطة بإعداد القهوة في الأعياد، وارتداء الملابس المناسبة، واستعمال الأواني الملائمة حيث تسعى ربّات البيوت إلى تأكيد درايتهنّ، وتقتنص الصّبايا الفرصة لجلب الانتباه، وتمتلئ شوارع المدن والقرى بعبق القهوة المنبعث من حبّات البنّ المحمّص في المنازل والمختلط بالرّوائح المنبعثة من البخور. وفعلا، يصعب التّخلّي عن القهوة التي يقال عنها أنها تجلب أرواحًا غير مرئية تُستلطف بفضل المزايا التّطهيرية للبخور. وتُنشر الأعشاب الطريّة والأزهار على الأرض كعربون ترحيب، ويقع تبادل الدّعوات بين الأقارب والجيران والأصدقاء حاملين معهم أكياس السكّر أو التّوابل التي تدخل في إعداد القهوة إضافة إلى الحبوب المحمّصة أو الفشار المملّح كمكسّرات.

ثلاث خدمات متتالية

يتمثّل الفصل الأوّل من الجلسة الاحتفالية في قيام كلّ ضيف بحركة خفيفة بيديه لسحب الدخان المنبعث من الحبوب المحمصة إلى أنفه. ثمّ يوضع إناء طهي القهوة المسمى "جبانة"، والمصنوع من الطين في شكل بطن مستدير ورقبة طويلة حيث يُملأ ماءً ويوضع على النار. وتُسحق الحبوب في مهراس ثمّ يُجمع الطّحن في راحة اليد ويُسكب في إناء القهوة ويُغلّى ثانية مدّة قصيرة. في مرتفعات إثيوبيا التي تبلغ 2500 متر، يَغْلي الماء عند 91 درجة مئوية، وهي درجة الحرارة المثالية للحفاظ على شذى المواد.

عندما يصبح المشروب الأسود جاهزا، يُسكب من الأعلى، دون إراقته، في أكواب صغيرة بدون مقبض وواسعة الفوهة، تكون موضوعة على طاولة منخفضة ومصمّمة خصيصًا للغرض. ثمّ تقدّم القهوة أولاً إلى الأشخاص الأكبر سناً والأكثر حظوة من بين الضّيوف. ويمكن إضافة شيء من السكّر لتحسين المذاق أو قليل من الملح، خاصة في الأقاليم الريفية حيث يكون السكّر نادرًا وباهظ الثّمن. كما يُستحسن كثيرا غمس عودٍ صغير من نبتة "تينادام" العطرة (حرفيا "صحّة آدم"). بعد هذه الخدمة الأولى، يُسكب الماء على بقايا القهوة، ويتم تسخينها مرة أخرى لتقديم خدمة ثانية. وأخيرًا، وبعد بضع ساعات، تُوزّع خدمة ثالثة لاختتام الجلسة الاحتفالية.

وتسمّى هذه الخدمات الثّلاث "أبول" و"تونا" و"بركة"، وهي منحدرة من اللغة العربية وتعني أوّل، وثاني، وبركة. وتحمل هذه السّمات اللغوية أثرا لأعراف دينية. فحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان استهلاك القهوة ممنوعًا على الإثيوبيّين المسيحييّن، وكان شربها مسموحا به للمسلمين فقط عندما كانت حدود أثيوبيا غير التي هي عليها اليوم إذ كانت المملكة المسيحية منحصرة في الجبال. ومع توسّعها نحو السّهول المنخفضة، استوعبت أراضٍ كانت تحت حكم السلطات الإسلامية. وكان الأمر يتعلق بتكوين حاجز وقائي ضد التوسّع الاستعماري الأوروبي.

رهان اقتصادي وسياسي

تأسّست دولة إثيوبيا الحديثة في مثل تلك الظّروف. وكانت القهوة تُمثّل حينذاك تحدّيًا مزدوجًا. فمن ناحية، وعلى الصعيد الاقتصادي، كان من الضروري تدعيم الاستقلال السّياسي من خلال تنمية الصّادرات إذ كانت شجرة البّن تنمو جيدًا في إثيوبيا حيث الأرض والمناخ اللذان نشأت فيهما هذه النّبتة[1]. ومن ناحية أخرى، وعلى الصّعيد المجتمعي، كان من الضروري توحيد السّكان المنقسمين، فعمد الإمبراطور منليك الثاني، الذي حكم من سنة 1889 إلى سنة 1913 وكان يستهلك القهوة علنًا، إلى تشجيع رعاياه المسيحيين على الاقتداء به، ليس فقط لتحفيز السوق المحلية (إذ أنّ %40 من إنتاج القهوة الأثيوبية، اليوم، يُستهلك محلّيا)، وإنما أيضًا لتأسيس أمّة مُتّحدة ومسالمة.

تعود أصول الجلسات الاحتفالية للقهوة، التي أصبحت رمزًا لفنّ العيش بأثيوبيا، إلى الرّوحانيات الإسلامية الصّوفية

تعود أصول الجلسات الاحتفالية للقهوة، التي أصبحت رمزًا لفنّ العيش بأثيوبيا، إلى الرّوحانيات الإسلامية الصّوفية. ويتواصل إلى اليوم تحضير القهوة عدّة مرّات خلال الاحتفال في حلقات الصلاة الصّوفية. وتعتبر أدوات الطّقوس، من إناء طهي القهوة (جبانة)، ومبخرة، ومائدة توضع عليها الأكواب، من دوافع القوة الروحانية المُعبّر عنها بمفهوم "البركة". هذا التدفّق في الحسنات يتمّ التّعبير عنه، عند تقديم القهوة، بعبارات البركة التي ينطق بها المسؤول عن الشعيرة. وهي ارتجالات شعرية حقيقية تَسِمُ القهوة ويتم استيعابها من قبل جميع المشاركين لتقوية أواصر الأخوّة والصّداقة التي تجمعهم.

جدل حول تأثيرات القهوة

يعود هذا التّرميز الطقوسي للقهوة إلى القرن الخامس عشر من الحقبة الحالية، عندما اكتُشف هذا المنتوج المتأتّي من الغابات الجبلية في جنوب إثيوبيا قبل أن ينتشر في اليمن. وقد وقع، في البداية، تبنّي هذه المادّة ذات التّأثيرات المنبّهة من قبل أعضاء الطريقة الشّاذلية الصّوفية التي أُنشئت في تونس ثم في مصر في القرن الثالث عشر.

فبعد أن لمسوا في هذا المنتوج الجديد أفضل عون لهم في تمارينهم وأذكارهم الرّوحية، أخذوا في التّشجيع على استهلاكه. غير أنّ الجدل كان حاميا في العقود الأولى من انتشار شرب القهوة في شبه الجزيرة العربية، ثم في مصر وتركيا وفي جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، إذ اعتبر بعض الفقهاء أن الإثارة التي تُحدثها القهوة تشبه في طبيعتها النّشوة النّاجمة عن الخمر المحرّم في الإسلام.

في الجزيرة العربية، كانت السّلطات، في القرن السابع عشر، تنظر بعين الرِّيبة إلى الاجتماعات حول القهوة في أماكن التّعبير الحرّ

كما كانت السّلطات تنظر بعين الرِّيبة إلى الاجتماعات حول القهوة في أماكن التعبير الحرّ. إلّا أن الشّعور بالأريحية التي يوفّرها هذا المشروب، ولا سيّما دوره في دعم قدرات التّفكير، جعلت من نجاحه ظاهرة يصعب مقاومتها حيث فرضت نفسها على ردود الفعل المحافظة. وبدأت القهوة تنتشر في أوروبا بنفس الحماس منذ القرن السابع عشر، ليُصبح أساسيًا في ازدهار الحداثة.

هذه المراحل من التاريخ الأصلي للقهوة نجدها في أسطورة معروفة تقول إنّه مع حلول اللّيل، لاحظ أحد الرّعاة حالة تهيّج وتوتّر لدى قطيع الماعز (أو الإبل حسب الرواية) الذي يرعاه، فانتابه القلق وعرض الأمر على رجل دين. فبادر هذا الأخير بالتّحقيق في الأمر واكتشف أن سبب الاضطراب وجود شجيرة ذات ثمرة حمراء، ثم تولّى التثبّت من تأثيراتها على نفسه باستخراج العنصر النّشط من النّبتة وغليه في الماء. ومن فرط تحمّسه لهذا الاكتشاف، أصبح يشجّع زملاءه على الاقتداء به ليُقيموا الصلاة بحرارة آناء اللّيل.

ومنذ أن نشر فاوستوس نيرون، رجل الدين الذي تلقّى تكوينه في الكلية المارونية بروما، أوّل دراسة عن القهوة في أوروبا سنة 1671، وقع تداول هذه القصّة التي تربط القهوة بالماعز المرح واقتُبست في صيغ متعدّدة لتصبح شعارًا لعديد المحامص المستقلة عبر العالم. وفي هذه الدّراسة صفحات عن البُعد الشعبي لهذا المشروب، ورموزه الدينية الضّمنية، والأنشطة المعرفية التي يشجّع على القيام بها.

إيلوا فيكاي

عالم أنثروبولوجيا، ومؤرّخ، ومحاضر في معهد الدّراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس.

مهد القهوة البريّة

منذ 2010، أُدرِجت منطقة كاتا ضمن الشبكة العالمية لمحميات المحيطات الحيوية. وتعتبر منطقة كاتا، التي تبعد حوالي 460 كم جنوب غربي أديس أبابا، مهد القهوة البريّة. وقد أحصي ما يقرب من 5000 نوع بري من هذه النبتة في هذا المكان المرتفع من المحيط الحيوي.