فكرة

الأنشطة في الهواء الطلق، لعبة أطفال

كلّنا يعلم فوائد الأنشطة البدنية في الهواء الطّلق على الصحّة البدنية والعقلية للأطفال. ومع ذلك ما فتئ وقت اللّعب في الهواء الطّلق المخصّص للصغار يتضاءل. ومردّ ذلك، جزئيا، توسّع المدن، وتنامي حركة المرور، وطغيان الشّاشات، وإفراط الوالدين في حماية أبنائهم.
COU_2023_1_IDEA

بقلم هايلي كريستيان

يكفي إلقاء نظرة على الصّور الملتقطة في أيّ مدينة كانت، في النّصف الأوّل من القرن العشرين، لندرك أهمّية المكانة التي كان يحتلّها الأطفال صلبها. نراهم يحملون أسفارا على ظهورهم، ويقصدون المدرسة حاملين محافظهم على ظهورهم، أو يعوّمون قوارب قدّوها من الورق في مجاري مياه باريس، أو يهتزّون بهجة برذاذ مياه صنابير الإطفاء في نيويورك في غياب تامّ للكهول. أمّا اليوم، فيعسر العثور على مثل تلك الصّور. والسّبب هو ندرة الأطفال الصّغار الذين يلعبون أو يمشون بمفردهم في الشّوارع أو يركبون الدرّاجات.

وفعلا، فقد شاهدنا على مدى الأجيال الماضية تدهورا ملحوظا في ممارسة الألعاب في الهواء الطّلق، وفي الحركية المستقلّة للأطفال. وهذا التّراجع هو أولى المؤشّرات على انخفاض مستوى ممارسة النّشاط البدني، علما وأنّ هذين الجانبين مرتبطان ارتباطا وثيقًا ببعضهما البعض من جهة أن النّشاط البدني يُحَدَّدُ، في جانب كبير منه، بالفترة الزّمنية التي يُقضّيها الطفل خارج البيت.

وتؤكّد منظّمة الصحّة العالمية على أنّ الأطفال المتراوحة أعمارهم بين سنة وخمس سنوات يجب أن تُخصّص لهم ما لا يقلّ عن ثلاث ساعات أنشطة البدنية في اليوم. أمّا المتراوحة أعمارهم بين 5 و17 فعليهم ممارسة أنشطة بدنية لمدّة ساعة واحدة على الأقلّ يوميّا. إلّا أن دراسة حديثة، شملت 29 دولة، أشارت إلى أنّ الأطفال المتراوحة أعمارهم بين 3 و12 سنوات يقضون يوميّا بين 60 و165 دقيقة فقط في اللّعب في الهواء الطّلق.

هذه المعاينة نفسها أكّدتها دراسة غلوبال ماتريكس Global Matrix التي نُشرت في أكتوبر 2022، حيث أجرى التّحالف العالمي للنشاط الصحي للأطفال Active Healthy Kids Global Alliance  تحقيقا مدقّقا على مستوى نشاط الأطفال في 57 دولة حول العالم؛ وتبيّن أنّه غير مرضي على نحو جليّ في جميع تلك الدّول.

أنشطة ضروريّة للنموّ

مثل هذا الوضع أصبح مدعاة للقلق بالنّظر إلى أهمية الأنشطة في الهواء الطّلق وعلاقتها بصحّة الأطفال ونموّهم. فمفهوم اللّعب جدّ أساسيّ بالنسبة للطّفل، وهو ما دعا إلى التّنصيص عليه في اتّفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الطفل. فميزة الّلعب في الهواء الطّلق أنّ الطّفل يختار أنشطته بكلّ حريّة، وعفويّة، واستقلالية، فيحصل له المرح والمتعة؛ ويتعزّز بالتالي نموّه الاجتماعي-العاطفي، والمعرفي، والجسدي.

وهذه الأنشطة مفيدة للصحّة أيضا إذ الأطفال الذين يمارسون نشاطًا بدنيًا يكونون أقلّ عرضة لمخاطر الإصابة بالأمراض المزمنة من قبيل السّمنة، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والسكّري؛ ويتمتّعون بصحّة عقليّة أجود، ووظائف معرفيّة وتنفيذيّة معزّزة، وراحة نفسية أفضل في العموم.

إن الاكتساب المبكّر للعادات الصحية يوفّر حظوظا أفضل في دوامها. وعلى العكس من ذلك، فإنّ السلوكيات المتّسمة بالخمول وغياب الحركة منذ مرحلة الطفولة تظلّ ملازمة للطفل حتى عندما يصبح كهلا مثلها مثل زيادة الوزن، والسّمنة. وتساهم الألعاب اليومية في الهواء الطّلق في تطوير المهارات الحركيّة الأساسية مثل الجري، والقفز على ساق واحدة، والقفز بالحبل، والقفز في الهواء، وهي أنشطة بالغة الأهمية للأطفال ليتمكّنوا من التنقّل، لاحقا، بكلّ ثقة في النّفس طيلة حياتهم.

كما تتيح هذه الأنشطة فرصة للطّفل للتّفاعل مع أسرته وأقرانه وغيرهم من أفراد المجتمع؛ إذ تُعينه على تطوير مهاراته الاجتماعية من قبيل التآلف والمؤانسة، والتّواصل الاجتماعي، وإدارة المخاطر، والإبداع، فضلاً عن تعزيز الاستقلالية والقدرة على تقرير المصير -بوصفهما مهارات أساسية في الحياة اليومية-، والميل إلى اكتشاف بيئته المحيطة.

وقد أظهرت الأبحاث، على صعيد آخر، أن انتباه الأطفال وتركيزهم في الفصل الدّراسي يكون أفضل إثر فترات اللّعب في الهواء الطّلق إذ تساعد الألعاب الحركية في الهواء على تدفّق الدمّ إلى الدّماغ مما يعزّز القدرة على التّفكير.

تُظهر الأبحاث أن انتباه الأطفال وتركيزهم في الفصل الدراسي يكون أفضل بعد فترات اللّعب في الهواء الطّلق

إنّ للألعاب التي تُمارَس "في الطبيعة" فضائل إضافية، فهي تحفّز الاستكشاف، والخيال، والتّفاعل مع الناس، ومع النّبات، والحيوان، وتساعد على تطوير سلوكيات صديقة للطبيعة.

وحتّى الألعاب التي قد تنطوي على "مخاطر" من نوع التي تفترض السّرعة أو استخدام أدوات معيّنة، أو التي تُمارَسُ قرب الماء أو النار، لها دورها في نموّ الطفل إذ تعلّمه التكيّف مع المخاطر والسّيطرة عليها. بيد أنّها ما فتئت تتضاءل بحكم المعايير الاجتماعية التي تفرض مراقبة الأطفال خوفا من وسم الوالدين بالإهمال. وقد انتهى الأمر بالأولياء إلى استبطان هذا المعيار الاجتماعي الذي جعلهم ينظرون إلى العالم الخارجي كبيئة محمّلة مخاطر.

هكذا أصبح الأولياء يتصرّفون في البيت كأنّهم حرّاس يقرّرون الأوقات المسموح فيها بالّلعب في الهواء الطلق ويمنعونها في أوقات أخرى. وكثير منهم يعتقد أنه ليس من الحكمة ترك الأطفال يلعبون في الخارج سواء بداعي مخاطر حركة المرور أو نتيجة التخوّف من احتمال تعرّض أطفالهم للاختطاف، على الرغم من أن الأرقام والإحصائيات في هذا المجال مستقرّة وفقًا لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة. وغالبًا ما تُغذّي الشبكات الاجتماعية هذه المخاوف، ممّا يخلق مجتمعات لا تتجرّأ على المخاطرة. وقد أكّدت الأبحاث زيادة تدريجية في نسبة الإشراف الأبوي وسلوكيات الحماية المفرطة للأطفال.

توسّع حضري مطّرد

تعتبر المجتمعات الحديثة من أبرز العوائق أمام اللّعب في الهواء الطلق. فنسق حياتنا اليومية ما فتئ يقلّص من فسحة الزّمن المطلوب تخصيصها لممارسة أنشطة خارجية مرتجلة مع أطفالنا، لا سيّما في سياق تطغى عليه الشاشات الحاضرة في كلّ مكان والمستحوذة على عقول المراهقين.

كما يمثّل التوسّع الحضري-العمراني المتسارع إحدى العوامل المكبّلة، إذ يعيش أكثر من مليار طفل حول العالم في بيئة حضرية، وستبلغ نسبة سكّان العالم الذين سيعيشون في المدن ٪70 بحلول عام 2050. هذه الظاهرة أدّت إلى زيادة حركة المرور، وتلوّث الهواء، وتفاقم ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية، وتراجع المساحات الخضراء الطبيعية، وتدهور التنوّع البيولوجي؛ وجميع هذه العوامل تنعكس سلبًا على الإمكانيات المتاحة للأطفال للّعب في الهواء الطّلق.

يمكن أن تضرّ رقابة الوالدين المفرطة بالأطفال بحرمانهم من نشاط ضروريّ لنموّهم

ضمان حقّ الأطفال في اللعب في الهواء الطلق

يمكن للأطفال أن يتمتّعوا بقدر أكبر من اللّعب في الهواء الطّلق في حال كان الوالدان ومقدّمو الرّعاية من الدّاعمين لممارسة الأنشطة البدنية، خاصة في الهواء الطّلق وفي أحضان الطّبيعة، لذا فإن من بين الإجراءات التي يمكن للأُسر اتّخاذها تدبّر وقت للّعب داخل الأسرة، خصوصا في نهاية الأسبوع.

وتسهل إتاحة فرص للأطفال للّعب في الهواء الطّلق عندما تكون البيئة الاجتماعية والمادية والسياسية المحيطة ملائمة، لذا يتعيّن العمل على توفير بيئة مواتية للأطفال والأسر حتى يصبح اللّعب في الهواء الطّلق تجربة ميسورة وآمنة وممتعة. وقد يساعد تعزيز الدّور الاجتماعي للجوار والشّعور بالانتماء إلى المجموعة في التّخفيف من حدّة مخاوف بعض الأولياء بشأن أمن حيّهم. كما يمكن مقاومة الرعاية الوالدين المفرطة بتبيان مدى إضرارها بالأطفال وحرمانهم من نشاط ضروريّ لنموّهم.

تسهل إتاحة فرص للأطفال للّعب في الهواء الطّلق عندما تكون البيئة الاجتماعية والماديّة والسياسية المحيطة ملائمة

يجب أن تتوفّر للأطفال إمكانية النّفاذ إلى المساحات الخضراء الآمنة والمنتزهات المحلّية المجهّزة بمرافق ملائمة لأعمارهم واحتياجاتهم. ومن الوسائل الإضافية لتعويد الصّغار على النُّزهات النّشيطة، الحدّ من كثافة حركة مرور السيارات وسرعتها، وإنشاء مسالك ومسارات مخصّصة للدرّاجات الهوائية. كما أنّ باحة المنزل والمساحات القريبة الآمنة والتي يَسهُلُ الوصول إليها -مثل باحة المنزل الأمامية وممرّات الرّاجلين المجاورة، وحافّات الطّرق- مساحات ألعاب خارجية أساسية.

لا يوجد حلّ أوحد لكبح تراجع ممارسة الألعاب في الهواء الطّلق. فهذا المشكل يجب أن يُعالج في جميع المستويات بدءًا من الوالدين، والطّفل، والحيّ، والبيئة الماديّة والسياسية، وانتهاءً إلى المسؤولية المجتمعيّة.

فصوت الأطفال هو الأهمّ، وخاصّة منهم الأطفال المحرومين. وإنّ من مسؤوليتنا صون حقّ كل طفل في اللّعب في الهواء الطّلق يوميا، وضمان هذا الحقّ. ونحن مطالبون بالإصغاء إلى رغبتهم في الّلعب في الهواء الطّلق، وتذليل العقبات التي تمنعهم من الخروج والقيام بأفضل ما يجيدونه، ألا وهو اللّعب!

 

هايلي كريستيان  

أستاذة مشاركة في معهد تيليثون كيدز Telethon Kids Institute ومدرسة السكّان والصحّة العالمية بجامعة غرب أستراليا. وتدير أيضا برنامج PLAYCE البحثي الذي يهدف إلى تحسين النّشاط البدني للأطفال ورعاية صحّتهم ورفاههم.

الرّياضيات تخطف الأضواء
اليونسكو
يناير-مارس 2023
UNESCO
0000384081