فكرة

الرياضيات، أداة أساسية لفهم العالم

إنّ الرّياضيات حاضرة كلّيا في حياتنا، سواء في هواتفنا أو بطاقاتنا الائتمانية أو سيّاراتنا. فالنّماذج الرياضيّة والخوارزميّات تلعب اليوم دورًا رئيسيًا في مجالات جدّ متنوّعة مثل التوقّعات المناخيّة، وإدارة رزنامة القطارات، و انتقال الفيروسات. وقد قدّمت دراسة حديثة، أجرتها اليونسكو تحت عنوان "الرّياضيات في جميع مجالات العمل"، فكرة عن مدى تطبيق الرّياضيات، وأكّدت على أهميتها القصوى في مواجهة تحدّيات معيّنة مثل مكافحة الفقر، وتراجع التنوّع البيولوجي، والتغيّر المناخي، شرط انتداب عدد كافٍ من علماء الرياضيات والمدرّسين المؤهّلين.
COU_2023_1_INTRO_WIDE_ANGLE

بقلم كريستيان روسو

كثيرا ما نسمع أن الرياضيات حاضرة في كلّ شيء. وهي فعلا كذلك. فجهاز استقبال النّظام العالمي لتحديد المواقع (GPS) يعتمد حساب الزّمن الذي تستغرقه الإشارات المرسلة إليه من الأقمار الاصطناعية، والاتّصالات المؤمّنة يقع تشفيرها لحجبها عن أيّ طرف آخر باستثناء جهاز الاستقبال، وملفّ تبادل البيانات JPEG الخاصّ بالصّور الملتقطة بواسطة الهاتف هو عبارة عن ضغط رياضي للمعلومة التي تتضمّنها الصّورة، ولولا هذا الضّغط الذّكي لبقيت ملفّات الصّور ضخمة للغاية.

وحيث إن كلّ إرسال للمعلومة يُحْدِث بعض الأخطاء، فإنّ جميع شبكات الاتّصال، بما في ذلك الهواتف المحمولة والتلفزيون، تحتوي على شفرات تصحيح حاضرة على الدّوام والتي بدونها لا تستطيع الروبوتات المُتحَكّم فيها عن بعد على سطح المريخ أن تنفّذ الأوامر الواردة من الأرض. هذا الحضور الدّائم للرّياضيات يُفسِّر سبب اختيار اليوم العالمي الأوّل للرّياضيات لسنة 2020 لموضوع "الرّياضيات في كل مكان".

الرّياضيات حاضرة على الدّوام في فهم كوكبنا وتنظيم حضارتنا

وفعلا، فإن الرّياضيات حاضرة كليّا في مجال فهم كوكبنا وتنظيم حضارتنا. ولقد كتب غاليلي منذ سنة 1623: "كتاب الكون مكتوب بلغة رياضيّة". وبعد أربعة قرون، فرضت التّحديات البيئيّة نفسها كإحدى أولويّات البشرية. فحسب إسقاطات الأمم المتحدة، سيشهد عدد سكّان الكوكب استقرارا عند بلوغه الأحد عشر مليارًا تقريبا بعد أن سجّل ثماني مليارات نسمة في نوفمبر 2022، في حين أن التغيّرات المناخيّة ستؤثّر سلبا على المحاصيل الزّراعية.

إنّ يوم تجاوز الأرض، أي اليوم الذي تكون فيه البشريّة قد استهلكت جميع الموارد التي يمكن أن يُنتجها الكوكب في عام واحد، بصدد الاقتراب أكثر فأكثر. فلو فرضنا أنّ هذا التاريخ قد يكون حلّ في نهاية شهر ديسمبر سنة 1970، لكانت النهاية في 29 جويلية سنة 2021. وتعتبر أهداف التنمية المستدامة لسنة 2030 للأمم المتحدة ردّا من المجتمع الدولي على هذه التّحدّيات التي تلعب فيها علوم الرّياضيات دورا من المقام الأوّل.

خوارزميات عالية الأداء

تتمثّل نمذجة المناخ في تحويل التّفاعلات بين مختلف العوامل المناخية، كالشّمس والغلاف الجوّي بما في ذلك الغازات الدّفيئة، والمحيطات، والتّربة، والأنهار الجليدية، وأنظمة النّباتات، إلخ، إلى معادلة رياضيّة. فتجميع المعطيات يُعدّ أمرًا ضروريًّا للتمكّن من رصد تطوّر النّظم المناخيّة، وهذا الرّصد يتعلّق بالرّياضيات أساسا. كما أن محاكاة هذه الأنظمة وضبط الاتّجاهات الرئيسيّة عمليّة معقّدة تتطلّب قدرة حسابيّة هائلة وخوارزميات عالية الأداء واستخدامًا أمثل للبيانات. ويتمّ هذا العمل على جبهات عدّة بداية من تحديد الاتّجاهات الكبرى طويلة الأمد، وكذلك إبراز الاتّجاهات الإقليمية.

كما إنّه من المهمّ أيضًا تحديد نسبة الشكّ بدقّة. وتُوجد تقنيات لتحسين التوقّعات الجويّة ورصد الاتّجاهات الموسمية. وهو أمر مفيد باعتبار أن التغيّرات المناخيّة تزيد من تواتر الظّواهر القصوى وانتشارها.

ولعلّ التنبّؤ بمسارات الأعاصير هو أحد المجالات التي حقّقنا فيه تقدّمًا مذهلاً إذ بمقدورنا اليوم توقّع مسارها قبل سبعة أيام تقريبًا من وصولها. فالمعرفة الأفضل بالمخاطر تساعد على توقعّ عواقبها والحماية منها في العقود القادمة، كمعرفة مدى الارتفاع الذي ينبغي بلوغه لبناء سدّ ما؟ وهل يجب إعادة بناء حيّ معيّن أم نقله تماما بعد حدوث فيضان؟ وما هي وتيرة الجفاف الذي يهدّد توافر المياه؟ وكيف يمكن تعديل معمار المدن وتخطيطها للتّقليل من آثار موجات الحرّ؟

نمذجة الواقع

هذه التوقّعات تعتمد على نمذجة رياضيّة، أي على تبسيط كبير للواقع. والأنموذج الجيّد هو الذي يوفّر صورة شاملة يمكن إخفاؤها وراء الكثير من التّفاصيل. لنأخذ حالة وضع وبائي، مثلا، فالنّموذج الأبسط، ويسمى أنموذج سير (SIR)، يصنّف الأفراد إلى ثلاث خانات: سريعو التأثّر، والمصابون، والمنسحبون (المتعافون أو المتوفّون).

إنّ القاعدة الأساسيّة في هذا النّموذج هي التي تفسّر الحركات بين الخانات من يوم إلى آخر موال. فيمكن، حينئذ، أن نحسب كيفية تطوّر مجموعة المنتمين إلى كلّ خانة على مدار فترة زمنية طويلة.

هذا الأنموذج، رغم إنّه تبسيطي، يكشف عن القوانين الكبرى للوباء مثل النموّ المتسارع أُسِّيّا، وذروة الوباء، وظاهرة المناعة الجماعية التي يتمّ بموجبها القضاء على الوباء قبل الإصابة به من طرف جميع السكّان، وتسطيح منحنى تراكم الحالات (المنحنى البرتقالي)، وعدد التّكاثر القاعدي الذي يقيس متوسّط عدد الإصابات النّاجمة عن إصابة أوّلية والذي يميّز انتقال العدوى لمرض ما.

هذه القوانين الكبرى تُخبر صانعي القرار عن تطوّر الجائحة. ويمكن بعد ذلك تحسين النّموذج للحصول على توقّعات أكثر دقّة. على سبيل المثال، يمكن تعديل القاعدة الأساسية التي تُسيّر الحركات من يوم إلى آخر لتأخذ في الاعتبار الإجراءات الصحيّة المتّخذة أو ظهور متحوّرات جديدة أكثر عدوى. كما يمكن أيضًا تقسيم الخانات إلى خانات فرعية (حسب الفئات العمرية، والطبقات الاجتماعية، والجندر، والمتعافين والمتوفّين)، إلخ. 

التّخطيط لمواقيت القطار

هناك مجال آخر لتطبيق الرّياضيات وهو "التّجويد الأقصى" الذي يتناول، مثلا، كيفية تنظيم نقل البريد أو البضائع وتوزيعها، والتّخطيط لمواقيت رحلات القطار لتسهيل عمليات تحويل الاتّجاهات والتّقليل من عدد القطارات، وتحسين ساعات عمل الموظّفين إلى الدّرجة المناسبة. ويُطرح الإشكال أيضا في مجال النّقل العمومي بالمناطق الحضرية وبالنسبة لشركات الطيران. وهذه الإشكاليات التي تنتمي إلى ما يُعرف بـالبحث العملياتي سهلة من حيث صياغتها وإعلانها لكن العدد الكبير جدّا من إمكانيات الحلول المتاحة يجعل من الصّعب إيجاد الحلّ الأمثل عن طريق التّجارب واستخلاص الأخطاء.

لذا، فإنّ البحث عن أفضل الحلول يتطلّب تطوير خوارزميات ذكيّة وفعّالة للغاية. وهذه التّقنيات نفسها مفيدة للانتقال البيئي الذي يتطلّب المرور من الاستهلاك المفرط للموارد إلى ترشيد استهلاكها على النّحو الأفضل من قبيل: كيف يمكن الاقتصاد في الطّاقة أو في الماء، والحدّ من إهدار المواد الغذائية، والاستفادة القصوى من الموارد المحدودة من خلال استعمالها على نحو عادل. تلك هي المجالات المطلوب من الرّياضيات أن تلعب فيها دورًا معيّنا. 

الذكاء الاصطناعي هو المجال الجديد لتطبيق الرياضيات

هذا، وإنّ الذكاء الاصطناعي هو المجال الجديد لتطبيق الرّياضيات وعلوم الإحصاء. ويُفسّر البروز الكبير لهذا المجال بكوننا أصبحنا نعرف الآن كيف نبرمج الحواسيب أو الروبوتات لتعليمهم كيفيّة التعلّم. فكما يمكن للإنسان التّعرّف على قطٍّ باعتباره قطّا، يمكن أن نعلّم الحاسوب أن يفعل نفس الشيء. وللتوصّل إلى ذلك، نقوم بتدريبه من خلال عرض مئات الآلاف من الصّور وتصحيحه كلّما أخطأ. ولأنّ الحاسوب يحسّن باستمرار برنامجه فسيتعلّم كيف يتعرّف على القطّ حتى إن لم يسبق له أن شاهده لا سيّما وأنّ الذّكاء الاصطناعي قد سجّل نجاحات مذهلة في مجال التعرّف على الصّور وعلى الأصوات، وليس لديه ما يَحسُد عليه البشر.

ومثل هذه التّطبيقات ما فتئت تتكاثر حيث يمكن استخدام الذّكاء الاصطناعي لرسم خرائط الفقر بتكلفة منخفضة باستخدام صور المجال التّرابي العمومي الملتقطة بواسطة الأقمار الاصطناعية، مثلا، أو من خلال الجمع بين الصّور النّهارية التي تكشف البنية التّحتية التي بناها الإنسان والصّور اللّيلية لتحديد المناطق المأهولة غير المضاءة ليلا باعتبارها علامة مرتبطة بالفقر. كما يُستخدم الذّكاء الاصطناعي أيضًا في المناطق شبه القاحلة في شمال كينيا لتأمين الوصول إلى الماء، إذ يسمح استعمال البيانات بتوقّع المناطق التي قد تتعرّض إلى نقص في المياه وبالتالي تطوير استراتيجيات للحدّ من الأزمة. 

فالرّياضيات تشكّل، إذن، صندوق أدوات استثنائي يختزن تطبيقات لا حصر لها وفي غاية التنوّع. وليس من قبيل الصّدفة أنها موجودة في كل شيء حولنا.

كريستيان روسو

أستاذة في قسم الرياضيات والإحصاء بجامعة مونريال (كندا)، ساهمت في الدّراسة التي أنجزتها اليونسكو بعنوان "الرّياضيات في جميع مجالات العمل".

 

الرّياضيات تخطف الأضواء
اليونسكو
يناير-مارس 2023
UNESCO
0000384081