مقال

هل التّشابه شرط للتّرجمة؟

إن أساس مهمة المترجم هي إيصال صوت المؤلّف على نحو دقيق. لكن هل يفترض هذا الإيصال أن يكون المترجم قريبا من الكاتب أو مشابها له؟ وإلى أيّ حدّ يكون ذلك؟ إنّ هذه المسألة ليست بالجديدة غير أنّها أخذت، حديثا، منحى عاطفيا. ومن وراء الجدل القائم بين مؤيّدي النّزعة الكونيّة والمدافعين عن التعدّدية والاختلاف، تبرز المسألة المعقّدة للمشروعية في مجال الترجمة.
Agnieszka Ziemiszewska for the UNESCO Courier

لوري سانت-مارتن 

أستاذة الدراسات الأدبية في جامعة كيبيك في مونتريال، كاتبة مقالات، روائية، مترجمة فورية في المؤتمرات، مترجمة أدبية

الترجمة التقاء بين لغتين وثقافتين على الأقلّ، ولا يمكن فصلها، تبعا لذلك، عن التنوّع، إذ تظلّ تجربة موغلة في الغيريّة حتّى في الوضعيات التي يكون فيها صاحب العمل المترجَم يشبهنا ثقافيًا. وحدث أن .عشق عديد المترجمين كتابا لشخص مختلف عنهم "عرقيا" و"ثقاقيا" فسعوا إلى البحث عن ناشر يُقْدِم على استضافة كلمات هذا الكاتب في لغة أخرى. لهذا السبب، كان للجدل الذي أثارته ترجمة قصيدةٍ لأماندا جورمان في عام 2021 أثره في نفوس هؤلاء.

لنذكّر سريعا بالأحداث: حالما أعلنت دار النشر الهولندية ميولينهوف عن اختيار ماريك لوكاس رينيفيلد لهذه المهمّة، وهو (أو هي) شاب غير ثنائي الجندر كان قد فاز، حديثا، بجائزة بوكر الدولية عن روايته الأولى، لترجمة قصيدة "التلّ الذي نصعد The Hill We Climb " التي ألقتها الشاعرة أماندا جورمان في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن، تساءلت الصحفية جانيس ديول عن سبب عدم اختيار النّاشر لامرأة من البشرة السوداء لهذه المهمّة. وسرعان ما بادر (أو بادرت) ريجنفلد إلى إعلان انسحابه(ـا) من المشروع. وهو ما أثار استياء العديد من الشخصيات من عالم الأدب والذين دعوا إلى الحقّ غير المشروط في الترجمة لأناس مختلفين عنهم تمامًا.

ورغم أنّ هذه الاحتجاجات كانت متوقّعة ومفهومة إلى حدّ ما، إلّا أنها تفتقر إلى الوضوح والتدقيق لذا سرعان ما أجهزت على النّقاش في المهد. ومن ناحيتي، أعتقد أن المسألة شديدة التّعقيد، فلا الخطاب الحقوقيّ ("لِيَ الحقّ في ترجمة من أريد") ولا لغة الإملاءات الهوويّة ("الوحيدة المخوّلة لترجمة شاعرة سوداء هي شاعرة شابّة سوداء مثلها") قادران على تقديم معالجة حاسمة للمسألة.

ومن جهة أخرى، يؤكّد البعض على أنّ طرح سؤال "من يترجم من؟" هو ممارسة للسياسة على حساب الأدب، وأنّ القول بأنّ عالم الترجمة عالم سليم ومتناغم، أو بالأحرى كان كذلك قبل أن يجتاحه خطر التنوّع والتعدّدية، غير صحيح، فميدان النشر، ومن ضمنه الترجمة، يخضع لعلاقات القوة التي كان الفضل لقضية أماندا جورمان تسليط الضوء عليها، على الأقلّ، ونعني العلاقات الجندرية، و"العرقية"، والطبقية، والجيوسياسية.

التنوّع المُضَلِّل

إنّ وفرة العناوين المترجمة والمعروضة بالمكتبات تعطي انطباعًا خاطئًا عن النّفاذ إلى أعمال من جميع أنحاء العالم، إذ أنّه لو تمعّنا بعض الشيء لاكتشفنا أنّ هذا "التنوّع" العالمي متجانس إلى حدّ ما، ولا يتعدّى بضع لغات وبعض البلدان، وهو منحصر في نخبة دولية من أشخاص نافذين. فتاريخ الترجمة، إلى حدود زمن قريب، هو تاريخ الرجال البيض الميسورين الذين تُترجم أعمالَهم فيما بينهم، أو تٌترجمها نساء.

إنّ تاريخ الترجمة، إلى حدود زمن قريب، هو تاريخ الرّجال البيض الميسورين الذين تُترجم أعمالَهم فيما بينهم.

واليوم كما البارحة، تجد الترجمة نفسها واقعة في شراك علاقات الهيمنة بين الشمال والجنوب، وبين "الأعراق"، واللغات والثقافات سواء كانت مهيمِنة أو غير مهيمِنة. إنّ الكاتبات المنتميات إلى عرقٍ موضوعَ تصوّرات وسلوكيّات عنصرية، والّلاتي وصلن إلينا من وراء الحدود عن طريق الترجمة، هنّ في العموم جزء من نخبة معولمة تكتب بلغة المستعمِر السابق (الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، البرتغالية، الهولندية، الإيطالية...)، وتُنشر أعمالها في نيويورك، ولندن، وباريس. والحال أنّه مقابل كاتبة هنديّة واحدة تُرجمت أعمالها من الهندية أو المراثية أو الماليالامية مثلا، هناك العشرات، بل وحتى المئات، من اللاتي تُرجمت أعمالهنّ من الإنجليزية. وحتّى داخل مجموعة أقليّة مُضْطَهَدَةِ أو مهمّشة تظهر تراتبية هرميّة معقّدة. ففي حين تستفيد كاتبة أمريكية سوداء البشرة من الهيمنة العالمية لبلدها في الخارج رغم معاناتها من العنصرية داخل بلدها ولها حظوظ أكبر في ترجمة أعمالها وتوزيعها دوليًا، فإنّ امرأة سوداء أخرى تعيش في القارة الأفريقية وتكتب باللغة الولوفية مثلا، لا تتوفّر لها مثل هذه الحظوظ.  فلكي يحظى المرء برأسمال ثقافيّ يجب أن يكون مالكا لرأسمال ثقافي مسبق.

ويبدو أن نصيب الرجال من ترجمة أعمالهم يفوق نصيب النساء، رغم صعوبة الحصول على إحصائيات إجمالية. ففي ذروة ازدهار أمريكا اللاتينية، لم تتمّ ترجمة أيٌّ من أعمال الكاتبات تقريبًا، وبقي جيل كامل من الكاتبات المهمّات مثل كريستينا بيري روسي، ولويزا فالينزويلا، وإيلينا جارو، وسيلفينا أوكامبو، خارج الأضواء. في حين أنّه بين عامي 2011 و2019، كانت نسبة النساء اللاتي ترجمن أعمال أدبية وشعرية في الولايات المتحدة تقارب ٪26.

أكاد أسمع من مكاني هذا أقطاب "الأدب الكوني العظيم" (وهو مفهوم صنعه المهيمنون ورعوه) وهم يعلنون أن تلك خيرُ النصوص التي وجب توزيعها عبر العالم. ولكن من الذي يتّخذ القرارات التحريرية من غير الأشخاص الذين يهيمنون أصلا؟ غالبًا ما يتغافل المنادون بالحرية المطلقة للمترجمين عن ذكر مدى "بياض" ميدان الترجمة إذ كشفت دراسة أجرتها مؤسسة أوثورز غيلد Authors Guild  (نقابة المؤلّفين)، سنة 2017، أنّ ٪83 من المترجمين النشطين بالولايات المتحدة هم من البيض وأن ٪1,5 فقط من إجمالي المترجمين النشيطين بالبلاد هم من ذوي البشرة السوداء أو الأمريكيين من أصول إفريقيّة. 

الانفتاح على الآخر

يجب أن تنفتح المهنة على مترجمين جدد ومتنوّعين بدلاً من أن تظلّ حكرًا على الأشخاص البيض. لقد قيل الكثير عن أهميّة وجود نماذج يُحتذى بها بالنسبة للمجموعات التي تتعرّض إلى التّمييز بمعنى أنّه إذا لم يكتب أشخاص "مثلك" (يشبهونك) مطلقًا، فستجد صعوبة في أن تتصوّر نفسك كاتبًا. وقياسا على ذلك، فإذا كانت الغالبية العظمى من المترجمين من البيض ومن الطبقة الوسطى، فكيف يمكن لشخص متمايز عن هذه المجموعة أن يُقْدِمَ على اقتحام هذا المجال؟

ومع ذلك فإن الصّلات والتّقاربات لا تستند دائما إلى الهويّة بل يمكن أن ترتبط بالأسلوب، أو ببصمة الكاتب، أو بالموضوع ذاته. ويمكن لنقاط التقاء أخرى عميقة أن تولّد الطّاقة اللازمة للتّرجمة. لقد تُرجم أحد كتبي من نوع الخيال العلمي إلى الإنجليزية من قبل شخص أصيل مدينة كيبك كان يصغرني سنّا، ثمّ إلى الإسبانية من قبل أرجنتيني يكبرني سنًّا بقليل، ولم يخطر ببالي مطلقا أنهما قد يكونا غير مؤهّلين لتلك المهمّة لكونهما رجلين أو لكونهما مختلفين عنّي بشكل من الأشكال.

يستحضرني قول طريف للروائي الفرنسي الكونغولي آلان مابانكو حول اختيار المترجم إذ يقول: "لون القطّ غير ذي أهميّة بالنسبة لي طالما أنه يظفر بالفأر"، بيد أنّ البعض الآخر يعتقد أن أصول هذا القطّ مسألة على غاية من الأهميّة. وفي الوقت الذي يفضّل فيه بعض الأشخاص من المجموعات الخاضعة أو المُهَمَّشَةِ أن يكون مترجم أعمالهم من الذين يشبهونهم، يهلّل آخرون لطلب ترجمة يقدّمه لهم شخص "غير ثنائي الجندر".

سوف نشهد في السنوات القليلة المقبلة -والأمر بدأ منذ زمن غير بعيد- ظهور مترجمين ينتمون إلى مجموعات أو بيئات أقليّة أو محقّرة. لكن نظرًا لأن الكفاءة لا تتولّد من المتغيّرات الهوويّة فقط، فإنّه سيتعيّن تفادي حصر هؤلاء الأشخاص في المجموعات "الخاصّة بهم"، إلاّ إذا كانوا يفضّلون تكريس أنفسهم لها حصريا.

وبالعودة إلى "قضيّة" أماندا جورمان، ودون الادّعاء بأنّه لم يكن بمقدور أي شخص أبيض أن يترجم قصيدتها على نحو جيّد، فإنّي أعتقد أن اختيار مترجمة شابّة سوداء البشرة، في هذه الحالة الرمزية والتي حظيت بدعاية إعلامية كبيرة، كان ليمثّل لفتة رمزية وسياسية رائعة علاوة على كونه دعما للتنوّع والتعدّدية.

وعموما، فإنه من المهمّ، حرصا على الإنصاف الاجتماعي، ترجمة أعمال لأشخاص أقل حظوة وأكثر تنوّعًا ومن أجل إسماع أصوات أخرى مغايرة كتمتها العولمة الزائفة والتي ليست سوى الوجه الآخر للاستعمار القديم مع بعض التّحديث.

الترجمة تَرُجّنا، فهي تزيح المركز عن موقعه وتربك الفكر الأحاديّ

نحن نترجم (ونقرأ الترجمات) حتّى لا نجد أنفسنا في "علاقة بينيّة مغلقة" ومصطنعة وعنيفة تتولّد عن الإلغاء والإقصاء. والترجمة تَرُجّنا وتضعنا أمام حقيقة أنّنا لسنا محور العالم؛ وهي تزيح المركز عن موقعه وتُربك الفكر الأحاديّ. وعندما تكون في أفضل تجلّياتها فهي التنوّع ذاته، وهي عالم، بل عوالم، في متناول اليد.

الترجمة سفر من عالم إلى آخر
اليونسكو
أبريل-يونيو 2022
UNESCO
0000381067