فكرة

دان مايار: "صورة الرياضيات مهتزّة في نظر التلاميذ"

هل حقّا إنّ الرياضيات مادّة تجريدية، وبالغة الصّعوبة، ولا تقدر عليها سوى ثلّة من المتميّزين؟ دان مايار، الخبير في علم البيداغوجيا، يُعارض هذه الفكرة المُسلّمة، ويوجّه أصابع الاتّهام إلى طرق التّدريس التّقليدية لهذه المادّة، ويدعو إلى اعتماد برامج تُشجّع التلاميذ على تقاسم أفكارهم ومعارفهم بدلاً من مطالبتهم بالحصول على معارف أكاديمية بحتة.
COU_2023_1_MEYER_WIDE_ANGLE

أجرت الحوار ليندا كلاسن

اليونسكو

من أين أتى اهتمامك بالرياضيات؟

لطالما أحببت الرّياضيات والمدرسة، رغم ما أُصبت به، أنا أيضًا، من خيبات أمل وإحباط. ولعلّه بفضل هذه التجارب السلبية، تحديدا، استطعت أن أتفهّم أولئك الذين يواجهون صعوبات. على أنّني كنت، أيضًا، محظوظًا بالتعلّم على أيدِي مدرسين استثنائيين كانوا يُبدون اهتمامًا بالتلاميذ وتمكنوا من تثمين أفكاري، رغم أنها لم تكن تأتي بالجديد.

كما عشت لحظات مثيرة جدًا عند استخدام الرياضيات للعثور على إجابة لأسئلة كنت أطرحها على نفسي. لم أقم بذلك لأحقّق نتائج دراسية جيّدة فقط أو للحصول على درجة علميّة. فعلى سبيل المثال، وأنا في مساحة تجارية كبرى، كنت أرغب في معرفة أيٍّ من طوابير الدّفع أسرع؟ هل هي التي بها أشخاص كثيرون حاملون لعدد قليل من البضائع؟ أم تلك التي بها عدد قليل من الأشخاص يدفعون عربات ممتلئة؟ فمن المثير أن نهتمّ بمسألة من حياتنا اليومية ونلجأ إلى الرّياضيات لمحاولة الإجابة عنها.

لماذا هناك كثير من التلاميذ "مصدومون" من هذا الاختصاص؟

عندما يُطرح على محرّك غوغل السؤال "لماذا أنا ضعيف للغاية في الرّياضيات؟" فإنّ عدد روابط البحث التي يعرضها أكبر بكثير من روابط البحث عن نفس السؤال المتعلّق بمواد أخرى مثل اللّغات أو العلوم أو التّاريخ. من الواضح أن الرّياضيات تعاني من اهتزاز صورتها لدى التلاميذ. إنها مشكلة تتعلّق بالثّقافة والبيئة الأسرية، لكن المدرّسين يتحمّلون أيضا جزءا من المسؤولية.

قد يصل الأمر بالتّلاميذ إلى اعتبار الرّياضيات تخصّصا ينتمي إلى كوكب آخر، يُجبرهم على التّخلي عن نظرتهم لأنفسهم وللعالم

في المواد الأخرى، تُبذل الجهود عموما لتحديد ما يعرفه التلاميذ مسبقا. أما في الرّياضيات، فيُفترض عادةً أنهم يأتون بمعارف جدّ ضئيلة. والنّجاح في الرياضيات يتطلّب منهم، عموما، عدم الأخذ في الاعتبار كل ما يعرفونه عن الأرقام، والأشكال، والأنماط، مقابل اكتساب مجموعة من المعارف الأكاديمية. فلا ينبغي أن نطرح عليهم مسائل حسابية تتضمّن، مثلا، العدو على مسافة عشرة كيلومترات بوتيرة مستقرّة، في حين أنهم يعلمون جيدًا أن ذلك لا وجود له في الحياة الحقيقية. ومع ذلك فإن هذا ما نفعله دائما! في الواقع، قد يصل الأمر بالتلاميذ إلى اعتبار الرياضيات تخصّصا ينتمي إلى كوكب آخر، يُجبرهم على التّخلي عن نظرتهم لأنفسهم وللعالم.

من جهة أخرى، يسود الاعتقاد بأن العالم ينقسم إلى مغرمين بالرّياضيات وسيّئون في هذه المادّة، على عكس العلوم الإنسانية، حيث تُستمد الحقيقة بشكل عام من التّوافق، ممّا يسمح لغير المتخصّصين بالتعبير بنفس القدر والخبراء. وفي درس الرياضيات، يتحتّم عليك إرضاء مؤرّخين ماتوا منذ زمن طويل، أولئك الذين ابتكروا قوانين الرّياضيات، وهو ما قد يكون صادما! لست متأكدًا من أنني أرغب، كل يوم وطيلة اثني عشر سنة من حياتي، أن أحضر درسا يتعيّن عليّ أن أبذل فيه جهدا لإرضاء بعض الموتى.

كيف يجب تدريس الرّياضيات لجعلها جذّابة لدى التلاميذ؟

يجب أن نسعى جاهدين لتزويد التلاميذ بالخبرات التي تُثير حواسهم وتُبرز المعارف التي يملكونها. فمن المهمّ أن نجلب اهتمام التلاميذ إلى الأنشطة المُقترحة عليهم، وأن يُدركوا فائدتها. فغالبا ما يُغادرون القسم وهم يشعرون بأنهم أقلّ توازنا نفسيا، وأقلّ قدرة، وأقلّ فائدة مما كانوا عليه قبل أن يبدؤوا دراساتهم في الرّياضيات. يا للعار! لا بدّ أن نكرّس كلّ طاقتنا في إيجاد الطريقة الأمثل لتدريس الرياضيات.

حاليا، أقضّي جزءا كبيرا من وقتي وأنا أحاول أن أفهم كيف نقدّر حقّ قدرها القيمة المذهلة للحياة الإنسانية للتلاميذ والتي نشاركهم فيها، نحن معشر المُدرّسين، لفترة قصيرة. فإذا كان التلاميذ لا يشعرون بحبّ محيطهم لهم، فذلك يجب أن يدفعنا إلى التفكير في إحداث تغييرات.

كيف يمكن تشجيع المُدرّسين على تغيير ممارساتهم؟

المُدرّسون ضروريّون للغاية. ورغم انتقادي الشّديد لمنهجيّتهم البيداغوجية، فأنا أُكنّ احترامًا كبيرًا لعملهم. إنّ ما يمكن أن يفعله المُدرّسون على وجه أفضل مما تفعله التكنولوجيا هو أن يوفّروا الفرص للتلاميذ لتقاسم محتوى أدمغتهم ومشاركة معارفهم في الرياضيات. أن نرسم على السبّورة، مثلا، عدّة أشكال متشابهة ولكنها مختلفة ونسألهم، "أين الشّبه وأين الاختلاف في هذه الأشكال؟ وما هو الشّكل الدّخيل؟". هكذا يخلق المعلم مناخًا من الثقة ويسمح للتلاميذ بالتّعبير عن أفكارهم. من هنا، يمكنهم تعلّم شيء ما والاستمتاع أيضا بتعلّمه.

مهنة المُدرّس صعبة للغاية، إذ تفرض عليه أن يكون، في نفس الوقت، عالم اجتماع، وطبيبا نفسانيا، ومدرّبا على الوجه الأفضل في مجال تخصّصه

عندما كنت مدرسًا، قضّيت الكثير من الوقت في تعديل الدّروس وتطويرها. في هذا المجال، يحتاج المُدرّسون بالخصوص إلى المرافقة. فما تقوله معظم البرامج المطروحة في السّوق للتلاميذ هو: "لا يهمّنا ما تعرفونه. هذا ما نعرفه نحن وما سوف نفرضه عليكم!". علينا أن نقترح على الأساتذة طرقا أخرى في التّدريس. يجب مساعدتهم على معرفة كيفية الاستماع على نحو فعّال، وكيفية ربط مختلف الأفكار بعضها ببعض. فالمهمّة ضخمة. وكل من مارس التّدريس يعرف إلى أيّ مدى هذا العمل مُعقّد، إذ المطلوب منه أن يكون، في نفس الوقت، عالم اجتماع وطبيبا نفسانيًا، ومُدربًا على الوجه الأفضل في مجال تخصّصه. الأمر صعب إلى أبعد الحدود. وهو ما يتطلب أنواعا كثيرة من الدّعم.

كيف يجب أن يكون كتاب الرّياضيات المدرسي في المستقبل؟

يجب أن يُعطي كتاب المستقبل مساحة لتنمية أفكار التلاميذ بقدر مساحة نظريات الماضي، والتي هي أيضا مُهمّة. يجب أن يتساءل في كلّ صفحة: "لماذا تمّ اختراع هذه الرّياضيات الجديدة. ما هي المشكلة التي يُفترض أن تحلّها؟ لماذا تَبيّن أن النظريات السّابقة غير فعّالة؟" يجب على كتاب المستقبل أن يُخبرنا لماذا نحن في حاجة إلى هذه الرّياضيات، وأن يُساعد التلاميذ على دراسة هذه الحاجة والتمعّن فيها. علينا أن نعتني بالاحتياجات الحقيقية للبشر أثناء عملية تعلّمهم.

دان مايار

تولّى مايار في البداية تدريس الرّياضيات في التّعليم الثانوي قبل حصوله على الدّكتوراه في بيداغوجيا الرّياضيات من جامعة ستانفورد (الولايات المتحدة الأمريكية). وهو، حاليًا، مدير البحوث لدى ديسموس، وهي شركة تتولّى تطوير أدوات وبرامج رياضية مجانية لفائدة المُدرّسين في جميع أنحاء العالم.

الرّياضيات تخطف الأضواء
اليونسكو
يناير-مارس 2023
UNESCO
0000384081